على مشارف فلسطين..المرور من صراط صهيوني ملعون

 

أحمد الجلالي

 

كنت آخر من ينهي إجراءات الحاجز الثاني من أعضاء الوفد المغربي.سحبت حقيبتي واتجهت إلى قاعة أكبر من سابقتها.أكثر من ثلاثة طوابير أمامي.أي طابور سأختار؟ هذه المرة اختلط علي “اليمين واليسار”. لمحت زملاء لي في الجهة اليسرى، آخر شباك.اتجهت نحوهم وعيونهم تقول “حمدا لله على سلامتك”.

حواجز حديدية أمام كبر شباك..لـ “تنظيم المرور”.والحق أنها وضعت لتعقيد المرور وجعل البشر مثل “كيموس ” يمر بمشقة في معدة تعاني عسر الهضم.كيف ذاك؟ سأشرح ما يصعب أصلا على الشرح.

حواجز الشبابيك متقاربة جدا مع بعضها، بشكل يكون معه المسافر العابر إلى فلسطين أو من غادرها، يكون مضطرا للوقوف الصعب، مع ما يرافق المسافر من أمتعة، وما خلفه من ساعات طوال من الانتظار في الحاجز الخارجي، وما يتبعه من حواجز سبق شرحها سابقا.

تخترق هذه الحواجز ـ الممرات، بشكل عرضي ممرات ضيقة، بحيث تصير مثل مربعات بينها فتحات. لو نظرنا إليها من فوق ستبدو مربعات بشرية، تماما مثل مشاتل زراعية يخترقها الماء عبر سواق بشكل مربع أو مستطيل.

المصيبة أن على العابرين ، وهم وقوف ومتعبون، أن يتركوا تلك الفتحات دون أن يقفوا عليها، وكل رأى الموظف من خلال الشباك أن الواقفين في طابور ما  الواحد وراء الثاني ـ كما يقف الناس أمام شبابيك البنوك ـ يصرخ من وراء الزجاج، مشيرا آمرا إياهم بالرجوع إلى الوراء.تذكروا جيدا هذا المشهد، لأني سأعود إليه بالتفصيل، من خلال ما حصل معي شخصيا.

الطابور يتقدم بسرعة أقل من سرعة السلحفاة، أو مثل عقارب ساعة خلال يوم صيام قائظ وطويل.كل عشرين دقيقة أو نصف ساعة يتململ من يقف أمامك نصف خطوة.

أردت أن أشغل بالي بشيء ما. لا شيء هنا للأسف يمكن أن نسيك ما أنت فيه.هل أدخن؟ مستحيل.التدخين هنا ممنوع، ولا سبيل أمامك للخروج أو الرجوع: الحواجز من أمامنا، والحواجز من ورائنا، ولا مفر من الصبر.لكن لابد أن أجد ما أتلهى به عن وفي هذا المشهد السريالي…وجدتها.هوايتي أثناء السفر” قراءة وجوه الناس وليس أي ناس، إنهم الفلسطينيون وجها لوجه مع الإسرائيليين..وأنا بينهما..عينا غير محايدة مطلقا.

وراء زجاج الشبابيك موظفون، منهم الذكور ومنهم الإناث.سأبدأ بالنساء.موظفة شقراء، أقنعت نفسي أنها من أصل روسي، اهتمامها موزع بين مراقبة الجوازات والهاتف، وأحيانا الحديث إلى العابرين وتوجيه الأسئلة إليهم.

إلى جانبها، موظف آخر ببشرة بيضاء، ورأس نال منه الصلع أكثر مما نال الاحتلال من الخريطة الأصلية لفلسطين. نظارته السوداء الشمسية جعلها فوق صلته، فصار يبدو مثل أي مخابراتي “أصيل”.

في مواجهة طابوري أنا حيث الشباك الأخير في أقصى اليسار، بدو لي من خلف الزجاج وجه أسود داكن، لشاب في أواخر العشرينات.هو الموظف الذي سيراقب جوازي بعد ساعات من الانتظار.

دخلنا المعبر أو الجسر كما يسمونه حوالي الثانية بعد الزوال، ونحن الآن في وقت المغرب..ومازال أمامي خمسة أشخاص.

طال الوقت كثيرا، وشعرت بتعب حقيقي على مستوى الظهر.لا بأس سوف أجد لعبة أخرى أتلهى بها ريثما يصلني الدور. هذه المرة، أمعنت النظر في وجوه الإخوة الفلسطينيين، ورحت أسأل نفسي أسئلة لا جواب لها، لكني سألت:

من أين أتى وإلى أين يمضي هذا السبعيني الوقور؟ كم مرة في حياته تعرض لهذه الإهانات، فقط ليمر إلى خارج فلسطين أو ليدخلها؟

وهذه السيدة المسنة المريضة، والتي بالكاد تقف على رجليها، كم وقتا من عمرها مضى على هذا النحو في المعابر، إذا أحصينا الساعات والأيام؟ لا شك أن لها عددا من أفراد أسرتها إما قتلهم رصاص تل أبيب أو يوجدون خلف القضبان.؟؟

وهذه الشابة، ذات الخمسة عشر ربيعا تقريبا، ذات الوجه البريء، والتي تحمل رواية باللغة الإنجليزية، لاشك أنها تلميذة.ترى كم تعاني كي تدرس، وكم معبرا بين بيت والديها ـ إن وجدا ـ والمدرسة؟ من أين يأتي الشباب الفلسطينيون بكل هذا القدر من الطموح والعزم على الدراسة وصناعة الأمل كل لحظة في حياتهم؟ وحتى وهم تحت النار والحصار، لا شيء من أملهم وحياتهم يتوقف؟

وهذا الشاب، الميالة بشرته إلى السمرة، برغم كل الحصار والقمع والقتل والتجويع، ها هو متزوج وإلى جانبه زوجة محترمة وإبنان دعوت الله في قلبي أن ينجيهما من كل عين أو مكروه.كيف استطاع أن يكون أسرة وينجب رغم كل هذه المآسي الشداد؟

ما أقل صبرنا نحن غر الفلسطينيين. نضجر بسرعة ونغضب ولا نقدر النعم التي نحن فيها، مقارنة مع أشقائنا هنا.اقترحت ـ عبر جهاز الخيال فقط ـ على المسؤولين المغاربة أن يبعثوا كل أبناء الأسر الميسورة، ذوي الأيادي والعزائم الرخوة، المخنثون في مشيتهم، أبناء فلان الفلاني وعلان العلاني..أن يبعثوهم إلى هنا بضعة أشهر فقط.. ربما يعودون وهم أقل رخاوة وأكثر رجولة، ويقدروا نعم الله عليهم في مغرب لا يحبونه كما نحبه نحن أبناء البوادي والحارات الشقية الضيقة، التي منها يتخرج أبطالنا في الجيش والأمن، ومنها شقت المقاومة المغربية طريقها الذي توج بالاستقلال والحرية.

أعود إلى الطابور.فرحت، بحيث لم يبق أمامي سوى سيدتين.هيأت نفسي للخروج من هذا المكان الغرائبي،ومنيت النفس والتنفس بلفافة تبغ ليس إلا.

كل الزملاء مروا، وبقيت آخر واحد ينتظر.فجأة جاء فوج من السويسريين من وراء ظهورنا وتقدم إلى الشباك، وبدؤوا يقدمون جوازات سفرهم…هنا لملمت كل ما بي من غضب، وحدة مزاج موروثة،تطلع معي في حالات محددة ولا سبيل لتليينها.

كنت سأذهب رأسا إلى الشباك وأجلس أمامه محتجا على هذه العنصرية السافرة:كيف يا سفلة تتركوننا ننتظر واقفين ساعات، وبعدها تقدمون علينا هؤلاء الأوروبيين؟؟ وليكن بعدها رفض مروري أو حتى ضربي بالنار، لا يهم.

وأنا أحاول الخروج من الطابور لأكلم الموظف الأسود البشرة، فإذا بموظفة أخرى وجدتها إلى جنبي، جاءت من الحاجز السابق.سألتها إن كانت تتحدث الإنجليزية، قالت “شوية”. وبدأ الحوار:

أريد التحدث إلى أكبر مسؤول عن هذا المعبر

لماذا؟

لأني أكره العنصرية وها نحن ننتظر خمس ساعات، وأنظري إلى هؤلاء الأوروبيين سوف يمرون قبلنا.هل هذا منطق؟

انتظر سوف أرى.

غابت قرابة العشر دقائق، ثم عادت مع شاب بملامح عربية يتحدث العربية بشكل حسن.سأعلم في ما بعد أنه درزي.

سألني بوجه بشوش نسبيا: شو صار؟

أعدت عليه ما سردت على زميلته، فقال لي: معلش صبرا شوية ويخلص الموضوع.ثم غادر.

تطلعت إلى الشباك فوجدت الموظف قد غادر.

أثناء هذه الجولة الجديدة من الانتظار المر، دخلت في حديث مع واحدة من جماعة الأوروبيين، وهي من أخبرتني أنهم سويسريون.

سألتها عن رأيها في ما يحصل وكيف تقبل ـ وهي الأوروبية “المتحضرة” ـ أن تزكي سلوكا عنصريا، هي أحد المستفيدين منه؟

قالت لي بشكل مباشر: إنه العار

اكتفيت بهذا الجواب الصريح وسكتت.

جاءت موظفة أخرى بجواب “تفسر لي من خلاله” سب تقديمهم الأوروبيين علينا.

قالت لي ” إنهم في آي بي”، أي أشخاص مهمون.

قلت لها: أنا أيضا وكل من معي “في آي بي” وأضفت: يكفي أن تكون بشرا فأنت “في آي بي”. انصرفت.

وصل دوري أخيرا. تقدمت، ولما كنت وجها إلى وجه مع الموظف، أخذ مني جوازي ثم قال لي ارجع إلى الوراء. رجعت. ثم قال لي مرة أخرى تراجع  فتراجعت إلى أن وصلت إلى كراس حديدية كانت وسط الطابور، وهناك جلست أنتظر قرابة الساعة.

فهمت أنهم يعاقبونني لأني مارست حقي في الاحتجاج، ولأني ربما “تحدثت إنجليزية فصيحة معهم ومع السويسريين وقلت للموظفة رأيي بصراحة في قضية الفي أي بي”.

قلت لنفسي مازحا: “إنهم يتصلون الآن يا جلالي بالمقر المركزي للموساد، وسوف يتهمونك بالانتماء لحماس أو الجهاد الإسلامي وأنك زورت سنك واسمك وأنت في الحقيقة من أتباع الجزائري بوديعة وأنت من كنت وراء تحريض الأختين برادلي لتنفيذ عملية في مطار بين غوريون”.

ولما تأخر الموظف، زدت نفسي تهمة أخرى: “بما أن سحنتك لا هي بيضاء ولا سمراء، ومادام اسم “الجلالي” شائعا في إيران وأفغانستان، فلا شك أنك على صلة بطهران من خلال حزب الله أو على صلة بـ”القاعدة”، وقد أتيت لتفجير المعبر، منتحلا صفة صحافي.

 

قطع علي الموظف سلسلة تهمي، لما ناداني ليسألني مرة أخرى وسألني:

من أين أنت؟

أجبت بسؤال: أنت تتحدث الإنجليزية، صح؟

قال نعم

سألت مرة أخرى، مستمرئا  لعبة الجواب في شكل سؤال:

هل قرأت على جوازي “ذ كينغدوم أوف موروكو”؟؟

أجاب ممثلا علي دور من لم نتبه: أأأأووه موروكو…نعم نعم.

ما عملك سيدي؟

صحافي

اين بالضبط؟

ماروك تلغراف “ويب سايت”

طيب، طيب.

سألته سؤالا آخر: هل تريد أن تعرف كم ينتظر المسافرون في مطاراتنا بالمغرب، بصرف النظر عن لونهم وجنسيتهم؟

كم وقتا؟ سألني

دقائق. أجبت.

ثم بسلوك غير متوقع، قام من مكانه وقال لي: آسف.

انصرفت، وفي ظني أن الموضوع انتهى. لكن “معدة الجسر” كانت بحاجة إلى مزيد من “الطحن”…لكن هذه المرة على خفيف، لأننا مررنا بالصراط غر المستقيم الأكبر، ولم يبق الكثير.

أمامنا حاجزان آخران.ميزة هاتين المصلحتين أن الإجراءات فيهما شكلية، لكن المعضلة هي الاكتظاظ ، إذ أن كل الشبابيك ومصالح التفتيش الأخرى تقذف بالأفواج البشرية في هذه القاعة التي تشبه “كاراجا” كبيرا جدا، كل شيء يمر فيه بسرعة لكن تحت زحمة قاهرة، وجلبة كأن زلزالا قد ضرب المنطقة.السبب برأيي أنها حالة نفسية وراء ركض العابرين ورغبة منهم في الخروج بسرعة  والوصول إلى بيوتهم.

كان الطابور يسير بسرعة، وما هي إلا دقائق حتى مررت بالموظف الأول، ثم موظفة ثانية، راقبنا جوازي…ومررت إلى خارج الجسر غير المعلق، لكن كل من يمر به يعلق من غير حبال.

كانت الحرارة في الخارج لا تطاق.وهناك وجدت الأخ عبد الله البقالي، ينتظرني بلهفة الأخ والمسؤول القلق بشأن رفيقه.قبل أن يسألني عما حصل ناولني مشروبا باردا كان اقتناه من أجلي. شكرته، ثم مددت يدي إلى علبة سجائره. وابتعدت قليلا ثم دخنت بشراهة.

فكرت: لم يفعلون كل هذا بنا؟.لابد من سبب.

وجاءني الجواب سريعا مثل إلهام شعري: كل هذا كي لا نفكر بالعودة إلى فلسطين أبدا.هيهات.


إلى الخميس المقبل مع الحلقة السادسة من هذه السلسلة..”فلسطين المحتلة..كنت هناك”

www.achawari.com

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد