“يوميات كورونا”/9 ..من منكم اقترب من الموت خنقا؟..أنا فعلتها مرتين

أحمد الجــلالي

شعار العدو رقم واحد للبشرية اليوم، المدعو “كورونا” هو القتل خنقا.كل الخبراء يؤكدون أن اللعين يهاجم الجهاز التنفسي ويخنق المسالك ثم يقاوم ضحاياه حتى النفس الأخير قبل أن ينهاروا تماما فاتحين الباب لعزرائيل كي يكمل المهمة ويستلم الأمانة.

كلما توقفت عند هذه النهاية وددت لو أن الموتى يعودون ولو في المنام ليقصوا علينا ما جر بالفعل، لكنهم لا يعودون إلى عالمنا الطيني.الغيسي هذا.

هناك قصص كثير لمن ماتوا ثم عادوا للحياة وكيف يروون عن تلك الابعاد التي لا يملكون لغة لوصفها. ببساطة لأن العالم المفترض أنه اقتربوا منه له مقاييس لم تخلق لغاتنا كلها لكي تستوعبه وصفا.

لكني أتذكر نفسي وكيف كنت على باب الموت خنقا. ليس بكورون اوقاكم الله منها ولكن في تجربتين بينهما قرابة الأربعين عاما.

في تلك الطفولة النزقة البعيد جدا، كان يوما صيفيا قائظا ولكني تسللت لأطار العصافير أو الحيوانات أو اللاشيء، كانت غضاريف ركبتي تمنعاني من الهدوء مهما كان الحر أو القر. قال جدي عني يوما “هاد الطفل غادي يموت مدبر”، مرت ثلاثون سنه لكي أفهم أنه رحمه الله كان يقصد أني سأموت ميتة غير طبيعية من كثرة نزقي وسرعة حركاتي وعدم مكوثي في أي سبر من الأرض.

غافلت الأم رحمها الله وتسللت إلى الخارج. كان البيدر مليئا عن آخره بأكوام التبن كأنها هضاب قدت من مادة بين البياض والصفرة.

عن لي أن أصعد كومة ضخمة من التبن ثم أتزحلق من فوقها كمن يتدلى من جبل ثلج أو ما شاكله.

صعدت مستخدما كل قواي إلى أن شعرت ببطولتي في قمة جبل التبن ذاك، ثم بعد لحظات انزلقت إلى القعر بقوة وكأنها الجاذبية أخذتني أخذ متسلط جبار. وجدت جسدي الصغير في قعر عميق هو نقطة التقاء أكوام تبن لمحصول قرابة العشرين هكتارا.

نططت كسعدان وقع في فخ وحاولت التسلق ففشلت مرارا، ثم بدأت قوتي الصغيرة تتقهقر تحت حر واختناق ذهب بأنفاسي كلها تقريبا.

ما العمل أيها الطفل الذي قال لك جدك سوف تموت “مدبر”؟ لا شيء غير الصراخ الممزوج بالبكاء والخوف: وا مي وامي وامي…أماه أماه أماه.

قلب الأم يمتلك أجهزة استشعار يستحيل أنها خلقت صدفة. في تلك الأثناء كان الوالدة تتساءل عن اختفائي في ذلك الهجير الذي يئن تحت وطأته الحجر. خرجت من المنزل وإذا بها تسمع صراخي الذي يبدو قادما من بئر سحيق.

هرعت المرحومة إلى. ولن أنس أبدا تلك اليد الرؤوم التي امتدت إلى من السماء عبر أمي ورفعتني إليها بقوة ثم أسرعت بي إلى بيتها وأفرغت علي الماء البارد المجلوب من نهر سبو العظيم.

كان قلبي الصغير يتحرك في صدري بسرعة مثل عصفور يترنح وضعوه للتور في قفص.وكنت كومة من لحم وعظم حاميين وعرق غزير يتصبب بلا توقف.

عادت لى الروح تماما بعدما شربت ماء باردا من “الخابية” وأكلت شيئا لم أعد أتذكره.

التجربة الثانية بينها وبين قريتي المجيدة آلاف الكيلومترات وما يزيد على أربعة عقود من الزمن. حدثت في مدينة البيرة، ضواحي رام الله بفلسطين المحتلة.

سبق لي إن حكيت زيارتي للأراضي المقدسة المحتلة في حلقات أرجو أن تصدر في كتاب، لكني سأعيد حدثا يتعلق بالاختناق..والاحتلال هو الاختناق الأكبر.

كان يوم جمعة يعقب الصلاة أسبوعيا مظاهرات احتجاج على المستوطنين. وجدت نفسي ضمن عدد من النشطاء من فلسطين وخارجها وحتى بعض اليهود الشرفاء نخرج محتجين صوب مستوطنة.

كان قطعان جند الاحتلال لنا بالمرصاء. بعد كر وفر كان من نصيبي تسرب غاز قوي إلى رئتي.وبعد مقاومة شرسة لوابل القنابل التي أرسلت صوبنا ورغم بعض الاحتياطات وجدت نفسي قبل المائة متر الأخيرة على سيارة الاسعاف بلا نفس تقريبا.

يتسرب الغاز الملعون للجيش الألعن على وجه الأرض إلى أعماق الرئة ويقول لكل أوكسجين يدخل أو نفس يخرج: المرور ممنوع.

استخرجت ما بقي بي من قوة وتحاملت على نفسي ودفعت بحسدي إلى داخل سيارة الاسعاف قرب السائق، أمسكت بهاتفي الصغير والتقطت بضع ثوان لي وأنا على تلك الحال، ومنها التقطت الصورة المرافقة لهذه القصة.

وإلى جانب النفس المنقطع، تشتعل حرارة خبيثة في الصدر والأنف والحنجرة. استويت على المعقد وقد انتبه أخ فلسطيني إلى وضعتي فناولني سائل شممته فإذا بمسلك ضيق ينفتح في رئتي وسمح للهواء أن يمر.

كررت العملية وبدأت أعود تدريجيا لوضع أحسن، لكن دموعا كانت تنزل من عيني المتورمتين بشكل فظيع.

ومن الألطاف الإلهية أني ورغم إدماني ساعتها على التدخين لم يرتفع ضغطي كما لم يتوقف قلبي عن العمل..ومرت التجربة بسلام.

وحين العودة إلى فندق “أبراج الزهراء” كنت كمن عاد من عالم الحرب إلى حياة السلام..

دمتم سالمين، ولترقد ارواح ضحايا هذا الفيروس اللعين بسلام.


www.achawari.com

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد