أنا رحت لخميس ارميلة..ورأيت أحوال المستضعفين

أحمد الجَــلالي

قال شاعر العرب العظيم المرحوم أحمد فؤاد نجم ذات ثورة قلم: “أنا رحلت القلعة وشفت ياسين…” إلى أن وصل ملاك قريضه إلى:”وبلغ يا سمير غطاس يا ضييف المعقل ثانوي بصوتك ده إلى كله نحاس..صباح الخير على الثانوي….وأهلا بيكم في القلعة”.

على إثره أخط لكم في العنوان أعلاه: أنا رحلت ارميلة وشفت الغاليين…محمد وعبد السلام…وكل أهل بلدي الباقيين”.

والرميلة لمن لا يعرفها من سكان المغرب تعددت أسماؤها ولم تتعدد صفاتها: هي دار الكداري وهي اخميس الرميلة وهي اختصارا لخميس.

وتشتهر هذه البلدة الحسناوية الأصيلة بخصوبة أرضها ومذاق نعنعها الرفيع وبمصنع السكر الذي يقبع في مدخلها منذ عقود، مثلما كانت تعرف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بسوقها الأسبوعي الفريد وشدة وغلظةعناصر قواتها المساعدة إلى درجة أن المغني الشعبي الشهير الستاتي غنى في هذا الباب: ما مشيتي لخميس الرميلة ما شدوك الجدارمية.

عرفت هذا المكان ونواحيه قبل أربعين سنة، وعرفه من سبقوني إلى دنيا الناس هذه بغزارة المنتوج الزراعي وكثرة رؤوس الماشية وعنفوان التين وعذوبة الماء الصالح للشرب داخل القرية ونذرته خارجها، وشدة حرارة الطقس صيفا وتهديد الفيضانات لكل من يدب على الأرض شتاء.

فالرميلة تعني في ما تعنيه طوفان المياه وغرق المنطقة بما عليها، كما تقف عنوانا لموجات جفاف قاسية من الجفاف لا تبقي ولا تذر إلا كرامة الناس الموروثة وهي ماي منعهم من مد اليد لغيرهم. ولقد عشت بينهم في طفولتي كارثة جفاف عقد الثمانينات حيث صار الخبز والتبن أعلى قيمة من الذهب.

رأيت موت المواشي والعطش وخطر الموت جوعا بين أهل بلدي.

وبعد عقدين ونيف كنت بعيدا عنهم بآلاف الكيلومترات ورأيته في فيديوهات مصورة من الجو وهم ينقلون بزوارق الجيش من قراهم التي نامت خنقا تحت مياه سد الوحدة، المنجز الكبير للحسن الثاني والذي مر بهم موكبه يوم تدشينه، ومنذئذ إلى يومكم هذا لم يروا قطرة ماء سقي من هذا السد لتروي مزروعاتهم وهي تموت أمامهم.

ولم ينبت في هذه المنطقة التين والنعنع فحسب بل أنتجت أيضا رموزا للسياسة والإقطاع. وهم من العراقة والجبروت بحيث سارت بذكر قصصهم الركبان.و “السياسة” في هذا الجزء من الوطن أخت التسلط وشقيقة ظاهرة الأعيان التي تفسد كل أمل في حلحلة الوضع المحلي ودفع عربة النماء بالشكل الذي تمنته أجيال الظمأ المتعاقبة.

لمن مر بدار الكداري التي يذلق عليها شباب بداية الألفية “الخميس الأسود”، لمن مر بها قبل عشرين سنة وعاد إليها هذا العام سيكتشف أن هذه “البلدية” لقطة متوقفة من فيلم رتيب. لا شيء يتغير: الغبار هو الغبار و الأوحال هي نفسها ورمادية المنظر لم تتزحزح، والبؤس في الوجوه وعليها باق والطرقات منها وإليها ما إن تعرف بعض الإصلاح حتى تترهل من فرط “الغش” و “اسكر لهلا يفكر”..وانتظر أنت وعمك صباح إلى أجل لن يسمى.

أنا رحلت قبل أيام إلى ارميلة في هذا الخريف الكوروني الموسوم باليأس وانحسار النشاط المدر للدخل وترقب المجهول.

“الفيلاج” شاحب كأي جسد مصاب ب”بوصفير” و الرواج أقل من المتوسط والقدرة الشرائية تحتضر وزبناء المقاهي أعادوا النظر في ميزانية إدمانهم ووفروا الدريهمات لما هو أهم: الخبز يا ناس.

بعض الأودية/الروافد جفت ولم يبق للضفادع من الماء حتى ما تبلل به جلدها الذي تكويه سياط “الشمش السفيرة” القاتلة.

التراب يئن تحت وطأة الجفاف وحفر بئر ليس في متناول أي كان، والمياه انسحبت عميقا كأنها هي أيضا تفر من وباء مخيف فوق سطح الأرض.

مائتا ألف درهم على الأقل هي الغلاف المالي الأدنى لحفر بئر وخوض مغامرة ليست مضمونة، ذلك أن إمكانية أن يردم البئر تبقى واردة…وحينها يصبح الفلاح مثل مقامر خسر الجولة الأولى فالتراجع عند ليس أقل خطورة من مواصلة اللعبة القاتلة.

يعيش السواد الأعظم من مغاربة هذا الجزء من البلاد على إيقاعين يمتدان بين الماضي والغد: فلا ماضي “ليام الزينة”  ــ حين كانت الخيول والدواب تؤخذ إلى المرحوم زحزوح ليكرم حوافرها بصفائحة ــ ستعود، ولا معالم لوجه غد بعيد عن القبح إلا سحنة كالحة لا تبشر بخير.

أنا زرت ارميلة وشفت الأزمة تلاوين، وقلت لنفسي أن كان هذا حال منطقة من أخصب جهات المغرب “المنتفع به” فما هو يا ترى حال باقي أطرافك جسدك المصاب بكل العلل يا وطني؟

لا سبيل أمام الدولة إن “ضاخت” سوى أن تشد الأرض. والإمساك بالأرض هنا أعني به أن تعود برامج الدولة الاقتصادية للأرض وتراهن عليها وعلى أهلها.

 فلا خلاص من الكارثة وتحدي الأزمة الرديئة التي باتت تطرق أبوابنا وشبابيك بنوكنا بشدة بعد أشهر وبائية عجاف سوى الرجوع إلى أمنا الأرض..صاحبة الخصوبة والعطاء والحضن الرحيم.

هنا ارميلة، هنا إذاعة بوركيبة، من استوديو لعطاونة.

نهاية الإرسال. إلى اللقاء.

www.achawari.com

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد