أحمد الجـــلالي
من قال فلسطين قال محمود درويش، كواحد من رموز القضية والأرض والإنسان في امتداده الجميل القاسي. نحن في فلسطين إذا، لكن أين درويش؟ درويش الذي مات جسدا ولن ينتهي فكرة وروحا ونفسا شعريا ورمزا للقضية الفلسطينية وللإنسان الفلسطيني المعاند بجبروت وكبرياء قلما تميزت به ذرية آدم منذ بدء الخليقة.
المؤتمر يتابع أشغاله، ونحن نعيش معه تفاصيل القضية في بعدها الإعلامي على الأقل، لكن يجب أن نزور ضريح درويش الكلمة. أين محرابه الأخير؟
اصطحبت زميلي أوسيموح لحسن وبعض رفاق الرحلة من مختلف الدول الشقيقة وحملنا خالد في سيارة رأسا إلى ضريح محمود درويش. خالد ذلك الشاب الفلسطيني المشتغل في سلك الأمن لا يعرف كلمة “لا” معنا نحن ضيوف فلسطين، وكأن هذ الفلسطيني الشهم خاصم الرفض والعبوس. عاد إلى فلسطين من الكويت بعد حرب الخليج الأولى ومنذئذ لم يبرح الضفة الغربية.راض بالقسمة، وفي القلب أمل في تحرير الوطن.
حملتنا السيارة حوالي ربع ساعة، وبعدما ترجلنا كانت المفاجأة: ضريح درويش على ربوة تبدو من خلالها رام الله شامخة أنيقة، هو في الاصل تحفة معمارية قدت من شعر وإبداع.
يقينا فإن من هندس الضريح عاشق لشعر محمود حتى الثمالة. الضريح عبارة عن كتاب مفتوح. نعم عاش الشاعر ملتصقا بالكتب والدواوين وهاهو في دار البقاء مقيم في كتاب مفتوح لمن يريد أن يقرأه.
صعدنا بضع درجات فكنا أمام قبر الراحل الجميل والكبير.تسمرت للحظة باندهاش طفولي. صرت ذلك الطفل بالسلك الإعدادي الذي سرق من مكتبة الحي ديوان درويش “العصافير تموت في الجليل”، ثم بعد أن التهمه وحفظ جل قصائده أعاده خلسة للرف نفسه، في المكتبة ذاتها دون أن يشعر الكتبي بتلك السرقة الأدبية الجميلة.إجرام شعري اقترفته. أتذكر أن ثمن الكتاب كان خمسة وعشرين درهما، وهي ثروة حقيقية بالنسبة لتلميذ أواسط الثمانيات من القرن المنصرم.
فجأة استفقت وما شعرت حتى وجدت نفسي بين عدد من الزملاء والزميلات من مسلمين ومسيحيين أقرأ الفاتحة على روح درويش.روح الإنسان الشاعر الذي ما تزال صرخاته تصرخ فينا بلا توقف. يصرخ في هممنا عند كل عدوان صهيوني على أهل فلسطين، عند كل مؤتمر قمة فاشل، عند كل تخاذل عربي، عند كل خيانة قومية..عند كل ربع انتصار.
انصرف الرفاق فبقيت وحيدا متسمرا أمام القبر، وفي البال ألف سؤال لدرويش حيا وميتا. من تكون ريتا؟ أين نشيدها وأين البندقية؟؟
امتزجت الأحاسيس ببعضها وانهمرت دموع غزيرة حرى.لم أكن سكبت واحدة منها منذ سنين طوال.
دلفت إلى داخل الضريح. هدوء يليق بالراحل الكبير.صوره تعرض بانتظام في شاشة كبيرة مثبتة إلى الحائط. قصائده لا تتوقف ملقاة بصوته العذب الرنان. كل أعمالة في صندوق زجاجي. كل مقتنياته الصغيرة، محفظتة، نظاراته، ساعته وأقلامه صفت في مكان زجاجي أنيق….تابعت المحتويات إلى أن وصلت إلى الدفتر الكبير المخصص للتوقيعات. ولأول مرة أعجز عن الكتابة ... توقفت الكلمات ثم أتت متتالية. لن أعيد عليكم ما خططت لكن يقينا كتبته بروحي ودمي وليس بمداد قلم.
مشيت إلى زاوية أخرى حيث تباع هدايا للزوار يعود ريعها للضريح كمؤسسة.أهداني زميل طيب جدا من مخيم “الدهيشة” فنجان قهوة عليه كلمة درويش في إدمانها. شكرته من القلب وضممت الهدية إلى صدري كطفل يتيم يوم عيد ميلاده.
التقطنا صورا كثيرة وكأننا نريد تثبيت كل شبر من المكان في الذاكرة.الحقيقة أنها عادة التقاط الصور وتخليد الذكريات ليس إلا، لأن صورة محمود درويش في الوجدان باقية إلى الأبد.
www.achawari.com