في بلعين ومع المناضل”أبو رحمة”..السماء تمطر قنابل صهيونية

أحمد الجلالي

الأيام تتوالى تباعا، والساعات تنفرط بسرعة غير مرغوب فيها.وددت لو أن بالإمكان تخدير عقارب الساعة ثم تنويمها كي أستمر هنا أطول فترة، فلحد هذا اليوم بدأت فقط أربط بين فلسطين التي في الكيان وفلسطين التي أمام العيان.
كان يوم خميس حين تناهى إلى علمنا توثر الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة وباقي فلسطين المحتلة إثر حادث “اختطاف” مستوطنين. كانت رائحة اشتهاء بني صهيون للدم الفلسطيني مجددا، أخذت تملأ الأفق بالأراضي العربية المحتلة.
في اليوم الموالي، أي الجمعة، وبعد الصلاة مباشرة وجدت نفسي مع كثير من الشباب الفلسطينيين ــ ومن غير اتفاق مسبق بيننا ــ في الطريق إلى خارج قرية بلعين، ولعله كان المدخل الشمالي لمدينة البيرة الملاصقة لرام الله الجميلة.
تجمع كثير من المناصرين للقضية الفلسطينية من أمثالي، وكانوا من أقطار كثيرة: فرنسا، مصر، العراق، موريتانيا.إضافة إلى  إخوة يهود رائعين يأتون بانتظام من الداخل الفلسطيني المحتل إلى رام الله من أجل نصرة القضية والاحتجاج على المستوطنين وعلى سياسيات الكيان الغاضب للأرض وللحرية وللإنسان.
ومن يعرف قرية بلعين لا يمكن أن ولا بحال أن يجهل من يكون أبو رحمة، المناضل الفلسطيني الصنديد.
في بيت أبي رحمة كان لقاء الصحافيين الذين طرحوا أسئلة كثيرة وتلقوا من أبي رحمة إجابات مستفيضة. بين أبي رحمة، والقرية كلها، مجال أخضر رائع،وشوارع نظيفة وناس طيبون نظيفو المظهر واللسان والعقل.
كنا نحتسي القهوة العربية، عربون الكرم الفلسطيني ونتابع ونسجل توضيحات المناضل الفلسطيني، وبعد أن فرغنا خرجنا من البيت قاصدين مستوطنة تشكل المكان المتقدم لزحف الاحتلال كالسرطان على ما تبقى من الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.
تفيئنا ظلال بعض الأشجار حيث شرح لنا منظمو المسيرة الاحتجاجية والشكل النضالي من أين سننطلق وإلى أين سنتوجه وماذا سيحصل وماذا علينا أن نفعل.
جمهور من المحتجين، بينهم كاتب هذه القصة، نردد وراء مناضل فلسطيني خمسيني أسمر بلحية بيضاء، شعارات قوية بالعربية والانجليزية، وبعض الأغاني الوطنية الفلسطينية الثورية أتذكر منها حرفيا التالي:
 One two three Palestine will be freeـ
ــ احتلال اطلع برا…ما بدنا نشوفك بالمرة
 ***                ***  
وجهك عربي ما يتبدل.. وعيونك فلسطينية
عمر الثورة ما تتحول.. عهويتها النضالية
إنت المنهل إنت المشعل.. غصن زتون وبندقية
وشلال الثورة شلال.. والجيل يخلف أجيال
جيل المستقبل يا رجال.. يا شرارة بتقدح حرية

كلمات الأغاني والشعارات تلك حملتني عقدين من الزمن إلى الوراء،عبر آلاف الأميال من تلك البلدة الفلسطينية، إلى حرم ثلاث جامعات مغربية كنت طالبا فيها.كانت فلسطين في تسعينيات القرن الماضي جزءا من خبزنا اليومي، وفاكهة عيشنا الطلابي، ومحرضا لوعينا الشقي. كانت ويجب أن تبقى البوصلة، لأنها أم قضايا الشعوب المحبة للعدل المناصرة للحق.
كنا كلما اقتربنا من سور تلك المستوطنة الصهيونية بدت ملامح المكان ومن به. كانوا قناصة فوق السور بيدهم أشد الأسلحة فتكا لكنهم خائفون مرتعدون.يطلون إلى الجماهير الزاحفة نحوهم بحركة خاطفة ثم يختفون وكأن بيدنا أسلحة وذخائر تشكل عليهم خطرا.
كنا نحمل معنا أصواتنا وأجهزة التصوير وحقدا على هذه الكوميديا السوداء المسماة حقا يهوديا في الحصول على وطن، تحول إلى تراجيديا إنسانية لم يشهد لها التاريخ مثيلا في القتل والتدمير والتشريد والسادية و معاداة الإنسان بعنصرية مقيتة تستند على أساطير خسيسة شيطانية. ولأول مرة في تاريخ البشر تآمر العالم كله تقريبا فأعطى شعب مستعمر ظالم أرض شعب أصيل إلى شعب لقيط.ثم استمرت حكاية قضم ما تبقى من أرض الفلسطينيين الأصلاء عبر المؤامرات والالتفاف والخذلان العربي والإسلامي.
كنا نغني أغانينا الثورية ونسير نحو السور/ الجدار العنصري حتى تقلصت المسافة بيننا وتلك “الطيور الجهنمية” فوق السور إلى بضعة أمتار فنغني: الاحتلال اطلع برا ما بدنا نشوفو بالمرة ، ثم نردد نفس المعنى بالانجليزية ونختمها بعبارة “إسرائيل فاشية”..
وهنا استوقفتني حركة كان يقوم بها الفلسطينيون الذي يسيرون المظاهرة: يضربون بأرجلهم على الأرض ويرددون ” يا الله أه أه أه..” في حركة فهمت منها أنا تستفز الصهاينة. يهيجونهم كما يهيج مصارع الثيران الإسباني ذلك الحيوان العنيف.
وفعلا، ما هي إلا لحظات حتى ضاقت صدور العساكر الصهاينة بصراخنا فقدموا لنا “هدايا” كثيرة :قنابل الغاز المسيل للدموع انهمرت كأمطار من عل. ولا تظنوا أنه غاز مثل غاز قوى قمع الشغب في بقية العالم، لا إنه كان ذلك الغاز الذي يستخدمه الجيش الاحتلال الصهيوني.
القنابل تسقط في كل مكان، وأبو رحمة يصرخ بأعلى صوته: عليهم الغاز عليهم، وكان توجيهه لنا يقصد أن نتراجع إلى الوراء قليلا ثم نتحايل على اتجاه الريح بحيث يصبح دخان القنابل الخانق الحارق بيننا وبينهم، فيما رائحته تعود عليهم.
وكذلك كان،تفرقنا ثم تجمعنا وبدأت الشعارات من جديد.و من جهتهم، لم يبخل علينا الصهاينة بمزيد من القنابل التي كلما فرقعوا المزيد منها إلا وخسر جيش الاحتلال المزيد من آلاف الدولارات لأنها غالية الثمن. وهذا جزء بسيط لكنه مؤثر من قبل العمل المقاوم في شقه الاقتصادي.
اشتد القصف وفي كل مكان فاضطررنا للتشتت بين الأشجار مجموعات صغيرة. كنت في مقدمة المحتجين، أسير ملاصقا لأخوين يهوديين في الصف الفلسطيني يحملان راية سوداء تحمل شعار الوحدة. على حين غرة سقطت قنبلة أمامي، ولأن الطبع يغلب التطبع، ونظرا لأن قدمي مارسا كرة القدم قرابة عقدين بشكل منتظم فقد سبقت قدمي عقلي فتعاملت معها بردة فعل لاعب الكرة فأعدتها بيسارية إلى السور حيت لقيت حتفها، وفررت من الدخان الخانق في اتجاه منحدر حيت وجدت بين الأشجار أختا فرنسية تحتمي من الدخان الذي تنفسته قدمت لها ما كان معي من ماء وقبل أن أطمئن عليها كان زميل مصري ساقطا إلى الأرض ويصرخ: حبيبي حبيبي حبيبي..أسعفته بما تبقى بي من نفس وما بقي معي من ماء، قبل أن يتسرب الغاز إلى صدري وعيني بدوري، فكدت أسقط أرضا.
كان غازا خانقا يشعل في الصدر والقلب والشرايين حرارة فوق الوصف. و لأني لم أكن أعلم مسبقا بمشاركتي في تلك المظاهرة، وليست لي سابق تجربة مع الغاز المسيل للدموع، فلم أحتط بأي شكل من الأشكال.
أدركنا رجال الإسعاف الفلسطينيون بسرعة، أسعفوا المصابين بكل احترافية، أما الداعي لكم بالسلام فقد جلست في المقعد الأمامي للسيارة، وكانت عيناي متورمتين ملتهبتين إلى أبعد حد.ناولني أخ فلسطيني قطنا به شيء كالعطر لأشمه، وما هي إلا دقائق حتى استقام تنفسي وزال الالتهاب من عيني.
 
ويبدو أن غاز جيش الدولة الصهيونية دخل إلى رئتي وأنفي وعيني، ولما “عربد ” بين شراييني قليلا اختنق فخرج هاربا من شدة كره التراب المغربي الذي أنا منه للاحتلال البغيض وحبه بالمقابل لفلسطين وأهلها..
عدنا إلى قرية  بلعين حيت تمشيت قليلا، فاكتشفت أن جزءا كبيرا من مساحتها مخصص للمقابر، وفي كل ركن من المكان قبر، وعلى رأس كل قبر شاهد وتحت كل شاهد شهيد. رحم الله الشهداء رحمة واسعة.
عدنا إلى بيت أبي رحمة لاستراحة قصيرة رفقة بعض الزملاء، تبادلت مع الرجل بعد الحديث الأخوي، وأثناء ذلك الحديث تحت شجر بباحة البيت في أحد أيام حزيران الحارة، أهداني الراية الفلسطينية التي كانت مرفوعة في تلك المظاهرة التي كان لي شرف المشاركة فيها، على غير ميعاد.
شكرا أبا رحمه، وليحفظك الله وكل المقاومين وليحرس بعينه التي لا تنام طفلتك الصغيرة التي سلمت علي وأنا أغادر بيتك. كانت تلك الأميرة الصغيرة ملاكا يمشي على أرض فلسطين الطاهرة.بوركت وبورك جيلها كله.
 وسأحتفظ بهذا العلم إلى آخر العمر، وسأوصي به لأعز الناس كي يحافظ عليه بدوره..وعسى أن يكون الجيل القادم جيل نصر وتمكين، لا جيلا خائبا مثلنا ومثل من سبقونا من أجيال النكسة والنكبة والعار العربي.    

****               ****                          ****                                 ****                                  ****  

ملحوظة:

 إلى اللقاء في الجزء الثاني من هذا الربورتاج المطول، تزامنا مع الذكرى الأولى لميلاد موقع “الشوارع”، مطلع العام 2019، والمتكون من سلسلة حلقات تبدأ في بيت المقدس وتنتهي في مطار الدار البيضاء.


 
 www.achawari.com
    

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد