في انتظار قرار المحكمة..هذه مستنداتي..ولهذا أكتب وأسخر

 أحمد الجَــــلالي

…ثم سألوني: يا هذا، لماذا في كل كتاباتك غالبا ما تهزأ أو تسخر؟

قلت: يا ناس هناك فرق بين الهازئ والساخر ومن على الضحك يُجبر.

…ثم قيل لي: يا صاحبنا، إن الدنيا بخير وهي واسعة فاضحك واسعد..فالتناسي بلسم والجد مر..وفي كل الأحوال وجه الدنيا ليس دائما أغبر.

أجبت: يا ناس، سواء صبرت أم لم أصبر فحالي من حالكم أفسده الدهر وليس بساحتكم عطار يصلح ما أفسده الصبر، وليس بحارتكم يهودي يسوي الوشم طلاسم على هيأة ورد وأوراق عنب وحواف صبار..كوجه زهرة تحت شمس آب قد أدبر.

يا ناس: ولم لا أسخر؟ ألم يستبدل نحاتكم قواعد سيبويه بحروف علة في كل كلمة وفي كل جملة حتى أمسى الكلام كسيحا يمشي على كراس متحركة مدفوعا بأيدي عميان القوم؟

يا قوم: وكيف لا أسخر؟ والرويبضات سائدات ناشطات فالحات يرقصن على ناصية المشهد..وذو العقل بعقله شقي والحكيم بحكمته مات كمدا أو انتحر؟

يا عالم: وما العيب في أن أسخر؟ ألستم من يقول كل شيء جميل ولا عيب إلا في قول الحق..ألستم من ينصح “المواطن الأصلح” بتقديم “الميم” في كل جواب كي يسلم؟

يا قوم: إن الكلمات الباقيات الصاحات للساني كلهن من بنات “صخر” وساخر حصرا، ولم يعد فوق اللسان حكمة ولا تحته عسل كي اغترف لكم من فنون فدان  الكلام حرفا يتيما من رصانة.

يا أهل حارتي: لقد مات فقيه مسجدنا واقتسم صبية الحي متاعه عن آخره: ابن العطار هرب باللوح وابن بائع الفول خطف القلم القصبي المشقوق، وابن المقامر عامر سكب الدواة بصمغها الأسود على الحصير المهترئ، وحازت العرافة حدهم “خنشة” لم يعرف أحد ما بداخلها.

يا أهل زقاقنا: لقد توفي قبل سنين المعلم علال ولم يترك زوجة ولا أبناء فاقتحم اللصوص بيته الأسطوري ونهبوا صوانه، وحين خرجوا أضرموا النيران وراءهم في البيت، وبعد تعاون الجيران على إطفاء الحريق لم تبق إلا دفاتر قليلة اكتشفنا بفضلها أن علال كان شاعرا وأنه كان يدمن كتابة رسائل العشق إلى امرأة مجهولة كان يرمز إليها المرحوم ب: ميم.عين.

يا أبناء جيرتي: لقد تغيرتم كثيرا بعد أن مات الأجداد والآباء..وغابت النصيحة والمحبة إلا لماما..وهاهو نسلكم لا يعرف من المجاملة إلا التحرش ولا يعني من الحياء غير الإشارات البذيئة..وهاهي ألسنتهم تلهج صباح مساء وبعد منتصف الليالي بفاحش الصراخ وقبيح اللفظ.

يا ورثة قريتي/مدينتي: ماذا ورثتم؟

أما أنا.. الساخر الماهر.. الحائر الصابر .. الغبي الماهر..الفارس العاثر..القوي الضعيف المكابر..فقد ورثت ثروتكم الطائلة: تعابير قسمات وجوهكم وانكساركم المشوه.. ولحن أنينكم المكتوم وريشة تصوير ألوان أحلامكم المؤجلة إلى يوم الحشر.

لم لا أسخر؟ ألم أشهد معكم على الحاج التامي وكيف أرغم ابنته الجامعية فريدة على الزواج من اعمر ذلك الأمي الجاهل  النتن فقط لأنه ابن اقطاعي عفن؟

ألم يكن الحاج الذي يفتخر بأنه حج إلى البيت المعمور ثلاث مرات يعلم أن اعمر سكير فاجر وله سوابق في الشذوذ؟…فلم لا أسخر، و عبد الصمد كانت تحبه ويحبها وبسبب الصدمة أصبح مخبولا..ثم هام على وجهه في الأرض إلى أن قيل إن قطارا معدا للسلع سحقه ذات ليلة شتوية باردة.

إنكم تستكثرون علي مجرد أن أسخر ولا أستبعد أنكم كنتم تتوقعون وتريدون مني أن أصبح خطيبا يفيض بالمواعظ الكاذبة وأحرضكم على الصبر وأنا أنافق لعلمي يقينا أن الصبر مل منكم وطفح كيله.

إنكم، وهذا ما لدي عليه براهين دامغة، تريدونني رزينا لأن قلوبكم استيقنت نضوب الرزانة في أنفسكم وعقولكم..ولذلك تحتاجون للفخر بأنه مازال في قبيلتكم ــ على الأقل ــ رجل رزين…لكني خيبت آمالكم في…وعليه لن أعتذر.

إنكم، وهذا ثابت لدي ثبوتا قطعيا، تحتاجون جدا إلى شاعر واحد على قيد الحياة يتقن العروض، لكي يذكركم بأصولكم العربية وأنكم من نسل داحس والغبراء..إلا أني ــ ولست معتذرا ــ كسرت القصيدة ودمرت العمود عن بَكرة أمه، وأصدرت لافتات محتجة مقززة بذيئة.

إني أعلم مدى معقولية مطلبكم الطبقي والقبلي بأن يكون أحد أبنائكم صحافيا ألمعيا يزلزل بافتتاحياته الدنيا ويهز الحكومة هزا..وقد طاوعتكم في السير قدما نحو هذه الغواية، لكني كنت لكم ذلك الصحافي ولم أكن…لأني ــ لعيب فطري في ــ فضلت أن أمارس الأجناس على أصولها وترفعت عن ممارسة هذا “الجنس” الإعلامي الراهن…فتم التصويت بأني صحافي ضل طريقه نحو الكتابة وقال بعضهم إنه كاتب زاغت به قدماه إلى الصحافة..وفي كل الأحوال صمتت الجهات الرسمية المعنية فلم تصدر بلاغا يشفي الغليل في مسألة تصنيفي مهنيا…أو طردي نهائيا من “تجمع حرفيي الصحافة والإعلام”…إنما ــ وفي كل الأحوال ــ اللهم لا أسف ولا حسرة…فقد حاولت جهدي، اللهم فاشهد.

 إنكم تعلمون أن واقعنا جميعا وقع على رأسه ولما حاول أن ينهض بدا وجهه مشوها أو قولوا صار تقريبا بلا ملامح، وفي أحسن الوجوه أصبح محيا كاريكاتوريا لمخلوق مسخ لا يُدرى من أي كوكب نزل.

يا من تستنكرون علي أن أسخر..هل ترون بوجه واقعكم عيونا حوراء تثير في الغزل؟ وهل تلمحون ــ خلافا لعيني الحولاء ــ جمالا في وجه هذا الواقع قد أستمد منه حروف الرصانة والرزانة والأمل؟

وهل رأيتم ببصركم الحاد على وجه حياتكم هذه ما عجزت عنه نظاراتي الطبية الملتصقة كلعنة أبدية بوجهي منذ عقود..أخبروني بمواطن الجمال كي أتحول إلى أديب ينسيكم في طه حسين..وأمدوني بصور البهجة كيما أستحيل إلى بيكاسو صغير.

عذرا يا أهل حارتي: فتحت شواظ الحر والهجير لا أعرف كيف أكتب لكم عن الثلج والمطر.

سخرت الأقلام…بعد أن جفت الصحف.  

www.achawari.com

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد