يوم “في حضرة” الحشاشين والسكارى..قفا نبك من هذا المآل

 أحمد الجَــلالي

من ضمن آخر الرياضات التي أحافظ عليها إلى اليوم وأواظب هناك المشي..والمشي أقصد به تحديدا ما لا يقل عن ساعة يوميا.

لكن هذا المشي لا يروق لي في أي مكان. أفضله في الطرقات قليلة الزحام وأستحسنه في ضواحي المدن..وأستطيبه في البوادي، جابلا كانت أم سهولا.

وإذا لم تتوفر هذه الشروط فما العمل يا أنا؟ البديل جاهز: الأسواق القديمة أو الشعبية..وحبذا لو كانت “جوطيات” كبيرة تعرض القديم من مصنوعات تقنية أو شبه تحف وكتب أو ساعات.

ولكني كلما غشيت هذه الأماكن لا أكتفي بالمشي والتسوق فحسب وإنما أمارس “رياضة” غير ذات عرق: تأمل الناس..قراءة صفحات وجوههم..مراقبة سلوكهم..محاولة فهم حركاتهم..يا اما استلهمت الكثير من كل هذا.

“مشاوير” الأيام الأخيرة، في مدينة متوسطة، ساعدتني في قياس نسبة الحياة في الناس الأحياء وجعلتني أقف ميدانيا أمام حقائق عارية، بعضها مريب وبعضها الآخر مخيف.

صادف يوم أمس السبت أن قد بالغت قليلا ــ من دون تخطيط مسبق ــ في المشي، والتقلب بين السوق وأطراف المدينة وإحدى ضواحيها، مشغلا مرقابي الرباني: العين.. إلى أقصاه.

لنبدأها من حيث بدأت: طقس قهوة “الصباح”، أقصد القهوة المشروب وليس الصحيفة، فلم أمسك أو أتصفح أي صحيفة مغربية منذ سنوات. ولا تستغربوا السبب أو تتعجبوا من صحافي أسس يوميات وازنة فصارت غريبة عنه وصار غريبا عنها…تلك حكايات أخرى.

وأنا أحتسي قهوتي ضاق بي المكان لأني حشرت بعد جلوسي بين مدخنين اثنين. وما يزعجك أيها المدخن الشره المتقاعد من بليته؟

أصبح التدخين عندي بعد سنوات من إقلاع ثوري حازم مجرد ذكريات لعادة سيئة، لكن الذي ضايقني في هذا الموقف ليس الدخان بل لأن “صاحبي”، ذات اليمين والشمال، كانا ينفثان الحشيش. كنت حرفيا بين “حشاشين” عوملا كزبونين محترمين ومليون طززز في اليافطة الفضيحة التي تقول: “ممنوع تدخين المخدرات”…وشكرا…هذا الشكر بالمقلوب من عندي..للإنصاف.

اختصرت الجلسة وغادرت المكان. كنت أبحث عن محل بعينه ولأني لست من سكان هذه المدينة فقد سألت أول شاب في طريقي. كان شابا في بداية عشرينياته وبعد أن أزال السماعات بصعوبة من أذنيه أشار لي بيد معقوفة عن اتجاه المحل. كانت يده اليسرة مشتبكة بيمناه فأشار بهما معا كي لا تسقط “البركة” من راحة يده: كان ــ ولا مؤاخذة ــ منشغلا بتحضير “جوان” في أول صبيحة من “يوليوز”.

وصلت المحل فسألت صاحبه مرتين عن غرضي لكنه كان شبه منشغل عني بشيء ما. وبعد استغرابي طلب مني في أدب لا أنكره: عمي غير واحد السويعة ورجع..فهمت: هو الآخر مستهلك حشيش وقد كان يلف “دخينته” تحت حافة المنضدة.

ما الذي يحدث؟ هل أصبح التبغ موضة قديمة راحت من جيلي؟ ومن أين تأتي كل هذه الأطنان التي تستهلك في عشرات الآلاف من مقاهي وأزقة الوطن؟ وهل تعجز السلطات عن قطع رأس الحية ومنع تداول هذه السموم من أساسها؟

في السوق، سوق المتلاشيات، أراد شاب أن يقنعني بجودة سماعتين وهو يتمايل بل لا تكاد ساقاه الطويلتان المخشبتان تحملانه. تحت شمس لافحة وفي هذا العراء..كان يمسك بلفافة حشيش أيضا، وظني أنه كان يستهلك معه أيضا نوعا من الخمر داهمتني رائحته عنوة.

تنقلت بين العارضين. كانت الوجوه بلا استثناء مكدودة والأبصار زائغة والتركيز عندهم في أدنى مستوياته. ولأن جني السؤال حصل على الإقامة الدائمة في دمي سألت أحدهم: ما الذي دوخ الناس اليوم..الكل شارد؟

كان جوابه قاسيا: العيد يا أخي.

الويل لنا، قلت لنفسي، أين أيام ما قبل العيد التي كانت عندنا عيدا؟

قلت لنفسي بعد أن ملئت قلقا من هذه المشاهد: مشروع مشيك الصحي اليوم أفسدوه، فلتخرج من هذه المدينة إلى ضاحيتها، وعزيت نفسي في مونولوج: ما لا يدرك كله لا يترك جله.

إلى الضاحية إذن. انضم إلي أخ/صديق لي ومشينا مسافة عبر طريق به أشجار وبعض بنايات تعود لحقبة الاحتلال الفرنسي..والوجهة بئر به ماء غاية في العذوبة لن أحدد للـ”خانزين فلوسا” مكانه مخافة أن يهرعوا إليه فيعلبوه ويبيعون للمغاربة بالشمة وقطيع الأنف والأذنين.

شيئان محزنان اقتحما علي المرقاب الإلهي المثبت تحت جبيني:عيناي أعني مرة أخرى.

كان لافتا ما فعلته الحشرة اللعينة بما تبقى من حصون صامدة للتين الشوكي/الزعبول. القرمزية الماكرة تترك ما بين الهندية من نباتات في سلام وتنقض عليها تحديدا لتقتلها..هذه النبتة الجميلة والمغذية تموت أمام عيني وأنا الذي لي معها قصص قديمة عنوانها: “زعبولة راكدة”.

ولكن وتفانيا مني في “إنصاف” الحكومة، أشير إلى أنها خصصت اجتماعها الأخير لـ”الصحة” النباتية في المغرب..ولكني أجهل تماما الحكمة الإلهية في تجاهلها لهذه النبتة: ربما لم يصنفوا الزعبول نباتا أو لربما فعلوا لكن هذه الهندية من “الهند” آصلا، وبالتالي فلا ضرر ولا قلق ما دامت “قانونيا” لا تحمل الجنسية المغربية.

ومن منظر الزعبول يحتضر وقلبي الذي عليه يحترق إلى منظر آخر يفوقه بشاعة لأن الذي يموت فيه وبسببه أوادم وليست نباتات شوكية.

بعد كل مسافة خمسين إلى مائة متر على تلك الطريق وجدت على قارعتها أكواما من قناني الخمور والجعة بمختلف ألوانها وأحجامها. أصغر كومة لا يقل مجموع قنانيها عن عشرة.

شبابنا في هذه المدينة وبلا شك في مدن أخرى.. في النهار يتحششون..وفي الليل يخرجون إلى هذه “الحانة” في الهواء الطلق ليسكروا..

ليتني كنت أستطيع الاستنجاد هنا ببداية تلك القصيدة التي تقول: ناموا ولا تستيقطوا….إذ أن الأمة كلها ستضيع إن لم تستيقظ هنا وهناك وفي كل مكان..والآن وليس غدا.

عدت إلى البيت كئيبا. أشعر وكأن لي مسؤولية ما عن هذا الوضع أو أن علي فعل شيء مهما كان بسيطا. من أنا وماذا أملك غير هذه الأزرار/الأقلام وفعل الكتابة الذي آمنت به خلاصا من الانحراف والبغي، ومتراسا في وجه الباطل والظلم، ورصاصا للدفاع عن الناس والوطن حتى آخر طلقة مداد؟

وهاهي ذي الرصاصات أطلقها ملعلعة صوب أصحاب العلاقة..عساها تصيب ضمائر ذوي الشأن ومن يحوزون إمكانيات إنقاذ شعب من الموبقات واليأس والاكتئاب.

فكلما طال الإدمان صعب العلاج…والفاتورة ما أثقلها ولا أظننا شعبا ودولة بقادرين على دفعها.

أعتذر منكم عن التسبب لكم في أي شعور بالاكتئاب أو القنوط، بعد التكرم بقراءة ما خطه لكم عقل وقلب مليئان بحب الناس..خاليان تماما من أي وهم أو حقد.  

www.achawari.com

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد