إشكالية الإثبات في المادة الجنائية بين النظرية والممارسة

ذ.سعاد المولوع

 سعاد المولوع*

 يبدو الإثبات للوهلة الأولى كعملية لمجموع الإجراءات التي يتدخل بشأنها فاعلون كل حسب المرحلة التي ينتمي إليها، ولكن في باعتقادنا فإن روح العدالة الجنائية وصلبها ورهاناتها هو النجاح في هذه المؤسسة، وكما هو جلي يصعب علينا إعطاء مفهوم  للإثبات، لأنه تكاد كل الإجراءات تساهم فيه بشكل أو بآخر.

وسنحاول من خلال طرحنا لهذه الإشكالية أن نقارب هذه العملية أو هذه المؤسسة على المستوى النظري الذي قلما يلتفت إليه، مع انه  يعتبر أساسا يمثل هذه المؤسسة-أساس الاستشعار بهذه المؤسسة- وكذلك فمؤسسة الإثبات هي مفترق الطرق، ولا تفوتنا لإشارة إلى انه يجب الحفاظ على الوسائل التقليدية للإثبات مع هذا التطور الهائل الذي بدا يخترق العالم الجنائي على مستوى التكنولوجيا، وعلى مستوى هذه الثورة العلمية التي أصبحت اليوم، يصعب ألا نلتفت إليها وألا نعتمدها، ونتحدث في هذه النقطة عن العلم في خدمة العدالة الجنائية  وليس العكس.

وإشكالية الإثبات في الحقيقة تسائلنا حول : إلى أي حد يمكن أن نحافظ على الجانب التقليدي للإثبات؟ وما هي هوامش الانفتاح المسموحة التي تخدم فعلا العدالة الجنائية ؟    

إن  إشكالية الإثبات في م .ج هي إشكالية نظرية أولا، و لربما اليوم أصبح أصحاب الاختصاص ينشغلون بالجوانب العملية أكثر من الجوانب النظرية وينسون أو يلغون حقيقة أساسية هي أن النجاح في المجال العملي مرتبط بالأساس بسلامة التصورات، إذن لا بد أن يكون هناك تصور  سليم  من اجل إيجاد قواعد تنجح فيها في التطبيق، وبالتالي فالجانب النظري مهم في المادة القانونية و بالأساس في المادة الجنائية، مع أننا نعتبر أن م .ج لها التصاق بالواقع أكثر من المواد الأخرى، ومن لا يستحضر الجانب النظري في الإثبات الجنائي يصعب عليه أن يكون فكرة أولية أساسية تساعده على تصور كيفيات اشتغال المسطرة الجنائية، في هذا الجانب الذي يمكن القول عنه بأنه الجانب الذي يحسم المحاكمة ويخلص قناعة القاضي الجنائي من أي انحراف، لان الخلوص إلى منطوق سليم عملية صعبة وبالتالي لابد أن توفر للقاضي الآليات القانونية السليمة من اجل أن تكون له إمكانية تكوين هذا الاقتناع.

عندما يلزم المشرع القاضي بالاقتناع الصميم أو الاقتناع الوجداني، فهذا يعني انه يلزمه بالحسم في النازلة بما اقتنع به من خلال مناقشة كل الحجج بشكل علني، حضوري و شفوي، و إن لم توفر له الآليات القانونية السليمة يصبح تكوين هذا الاقتناع من الصعوبة مما كان، لأنه هناك دائما خطورة الانتهاء إلى منطوق، إما ينتهي إلى براءة مشكوك فيها أو إدانة متسرعة، وهذه خطورة واقعية أكثر منها قانونية، لان القاضي يواجه حقيقة إنسانية مركبة من مجموعة من المعطيات تكاد تكون متناقضة، و المسطرة تعي مسبقا انه لابد أن توفر القواعد التي تنجح في إيجاد تيارين متقابلين )تيار الإدانة وتيار البراءة (ويقف القاضي في حياد أمام هذين التيارين من اجل اتخاذ قرار مقنع، قرار يجسد حقيقة قانونية وحقيقة واقعية.

نلاحظ أن العدالة الجنائية كالعدالة في المجالات الأخرى، و نحن دائما في حاجة إلى استئناف وإلى نقض و إلى إعادة النظر وهكذا. . . إذن القرار القضائي هو دائما في حاجة في المنطلق إلى مساعدة قانونية من اجل أن يتخذ، ولكن يبقى هذا القرار في حاجة إلى إعادة نظر من اجل أن تقال الكلمة الأخيرة وهي إضفاء قوة الشيء المقضي به وان تحسم بشأنها محكمة النقض.

هناك ثلاثة أسئلة رئيسية تطرح : من يقع عليه عبء الإثبات؟ كيف يمكن أن يقع الإثبات؟ إلى أي حد يبقى الالتزام بالإثبات قائما؟

عملية الإثبات ليست مطلقة ونلاحظ أن هناك مبدأ حرية الإثبات، وهذه الحرية لها أهداف وضوابط وبالتالي فالمعنيون بالأمر يشتغلون بمنطق معين وليسوا أمام عملية يتحكم فيها الخصوم والواقع.

 

–      السؤال الأول على من يقع عبء الإثبات؟

    الملاحظ من هذا السؤال يجعل المتهم بعدما آلت إليه تطورات العدالة الجنائية يتمتع بأصل البراءة، بمعنى تحرره في المنطلق من أن يتحمل عبء الإثبات، ليس فقط إعمالا للقاعدة التي تقول أن البينة على من ادعى بل إنها لا تأخذ على إطلاقها، و نجدها مرة تشتغل مع المدعي ومرة أخرى نجدها في الجانب الآخر تنتقل للمدعى عليه وقد تنتقل للأطراف الأخرى، إذن عندما نتساءل على من يقع عبء الإثبات نجد أن المتهم يحرره القانون من خلال تمتيعه بأصل البراءة، وعليه،  يلقى عبء الإثبات على  الأطراف الأخرى الفاعلة وبطبيعة الحال المؤسسة التي يقع عليها عبء الإثبات وبشكل منطقي ويجعل لمهمتها سموا، الطرف التابع الذي هو النيابة العامة حيث تجسد الحق العام بامتياز.

–      السؤال الثاني كيف يمكن أن يقع الإثبات ؟

نأتي بالمبدأ الذي يقول بالحرية في الإثبات في المادة الجنائية التي تعتمد بالأساس على العقلانية والاقتناع والإقناع، ولذلك نلاحظ على أن خلاصة هذه العملية الاثباتية لابد وان تؤول حتما إلى اقتناع القاضي سواء بالإدانة أو البراءة.

–      السؤال الثالث إلى أي حد يبقى الالتزام بالإثبات قائما ؟

الملاحظ أن عملية الإثبات ليست ثابتة وليست كما انطلقت يمكن أن تؤول، و حركيتها توزع أدوارا، لأنه هنا لابد أن تستثمر كل الفرص من اجل بناء الاقتناع، والأمر يحتم مساعدة القاضي على الاقتناع، أي لابد أن تستثمر كل الفاعلين المتدخلين ولابد أن تستثمر كل الفرص الممكنة من اجل تكوين هذا الاقتناع، ولذلك القواعد التي تعتمدها المحاكمة في هذه العملية هي منسجمة ومبنية على منطق يشغلها، لا نقول أنها متناقضة ولكن التواجه في حد ذاته فيه تناقض ولكن يخدم قضية واحدة وهي كشف الحقيقة .

إلى أي حد يبقى الالتزام بالإثبات قائما؟

هنا نذهب مباشرة إلى الحديث عن اقتناع القاضي الجنائي الذي بشأنه التشريعات الحديثة لم تملك إلا أن تنتهي إلى مبدأ الاقتناع الوجداني، و لا يمكن أن القاضي يحاكم إنسانا ويغيب الجانب الإنساني عن القضية، وبالتالي المحاكمة في حد ذاتها فيها شق إنساني بامتياز وان القاضي له دور ايجابي، فعندما يرى أن هناك معطيات يمكن استثمارها يبادر ولا يتركها بيد الطرف الذي يملكها، فنجده في الاستنطاق يجتهد من اجل أن يستثمر الفرص ليكون قناعته، وهناك من يقول قناعة القاضي وهناك من يقول عقيدة القاضي ليبرز إلى أي حد تعتبر المهمة صعبة والى أي حد هذه الحيادية تظهر في القاضي الجانب الإنساني، والملاحظ بان العدالة الجنائية لا يمكن أن تتم إلا هكذا، وهنا اغلب الفقه يتحدث ويخلص إلى إشكالية أن هناك وسيلة من وسائل الإثبات يمكن أن تسمو لتنعت بسيدة الأدلة، ونحن نقارب مفهوم الاقتناع ليس هناك بالنسبة للقاضي الجنائي ما يسمى بسيد الأدلة بل يمكن القول أن القاضي الجنائي هو سيد الأدلة.

    إذن فالجانب الإنساني يلعب دورا محوريا ولا يمكن الخلوص إلى قرار سليم  تتحكم فيه معطيات الإثبات خارج القاضي، هذا الاقتناع الوجداني يتركنا نجعل القاضي في مكانة سامية لا يمكن أن يتحكم فيه الدليل، ولذلك اغلب الفقه يعتبرون أن الاقتناع لا يمكن أن ينصب على وسيلة دون غيرها، وتكاد تكون كل الوسائل مستثمرة من اجل أن يتكون هذا الاقتناع ولننطلق من مبدأ الأصل الذي هو البراءة.

     فالمادة الجنائية لها خصوصيتها وبالتالي يصعب بمنطق سمو الإنسان أن تنطلق بأنه مدان مهما كانت الجريمة المتلبس بها ومهما قام الدليل، وبمنطق المسطرة الجنائية لا نستطيع أن نقول الدليل الحاسم على الإدانة في المنطلقات، هذه خلاصة ونتيجة يستنتجها القاضي عبر عملية الاقتناع والإقناع، ومحطة لكل الإجراءات وما تركت من اثأر على مستوى كل المراحل وعلى مستوى تدخل كل الفاعلين.

ولكن يمكن أن نقول ومنذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي إطار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن هذا المبدأ –الأصل هو البراءة- أصبح مبدأ رئيسيا والمنطلق الأساسي للمحاكمة في المادة الجنائية، وأيضا المشرع المغربي لا في أسمى قوانينه ولا في تشريعه العادي حسم بشان هذا المبدأ و تبناه، بل و استهل به مواده في ق .م .ج، وهذا يعني ضرورة احترامه في كل الإجراءات، وهذا فرق كبير بين أن تنطلق منه العدالة الجنائية وبين أن يكون هو المنطلق الذي تشتغل عليه كل الإجراءات، أساس هذا المبدأ هو في الحقيقة سياسي يكرس للحرية، بمعنى أن إقرار هذا المبدأ أريد به إعطاء هامش من الأفضلية من الناحية المبدئية للشخص كلما كان في مواجهة سلطة الدولة .

      وفي الحديث عن الحق العام قابلنا بين طرف مؤسساتي يجسد الحق العام وطرف اعزل أو خاص ياتي في مواجهة هذا الطرف المؤسساتي، إذن كان لابد من إعطاء الطرف الأعزل مركزا يمكنه من مواجهة هذا الطرف المؤسساتي الذي يعتبر مكونا من مكونات الدولة ولو انه يجسد في وظيفته الحق العام، ومن هنا كان لزاما على هذا الطرف المؤسساتي أن يتحمل عبء الإثبات.

      من جهة هناك عبء الإثبات ومن جهة ثانية طرق الإثبات و على المستوى الثالث نجد حجية الإثبات، وكل نتيجة أو نقطة أو اثر من هذه الآثار إلا ويطرح من الناحية النظرية بان الإثبات في المادة الجنائية من أكثر المواضيع أهمية، وسبق وقلنا بان م .ج تنطلق من أن الأصل هو البراءة، وهناك من يقول قرينة البراءة والعبارة السليمة والصحيحة أن نقول الأصل هو البراءة، لأننا عندما نقول قرينة وكأننا ننطلق من هذا المبدأ، بينما عندما نقول الأصل هو البراءة فنحن نسمو به إلى اعتباره دعامة أساسية للحرية ولتمكين الطرف الذي يواجه الدولة من مركز يدافع عن براءته، و عندما يعتبر المشرع هذه البراءة أصلا فكأنه يلزم الأطراف الأخرى بهامش من الجدية في البحث عن وسائل الإثبات التي تستطيع أن تواجهه كأصل وليس كقرينة.

     نحن هنا نطرح سؤالا مهما من يتحمل عبء الإثبات؟ يقول الفقه نظريا يجب أن نميز بين المسطرة الاتهامية والتفتيشية، ففي الأولى يتحمل عبء الإثبات النيابة العامة لأنه من يدعي يقع عليه عبء الإثبات، اما المسطرة التفتيشية فتجعله كذلك في هذه القضية على كل من قاضي التحقيق وقاضي الحكم، والملاحظ أن الحياد الذي نتحدث عنه في جانب قضاء الحكم لا يلغي دوره الايجابي في العملية الاثباتية، إن موضوع الإثبات موضوع معقد وتركيبي نكاد نقول انه حتى في الدول المتقدمة هو في حاجة إلى تطوير، لذلك نرجع إلى الجانب النظري فيه لأننا في حاجة إلى تنظير جديد أمام هذا التطور الذي عرفه التنظيم المجتمعي.

 

 إن الإشكاليات الحادة التي أصبحت تطرحها ظاهرة الحرية اليوم يعيد الأسئلة الرئيسية في الإثبات للطرح من جديد، واقل ما يمكن ان يقال عنه انه يكاد يكون في غليان ويحتاج إلى تنظير جديد بالنسبة للطرف المتابع-سلطة الاتهام- ونلاحظ الخلط بين الوقائع والقانون في المادة الجنائية وربما هذا هو الذي يطرح الصعوبة خاصة في العملية الاثباتية، وعلى الطرف المتابع أن يقيم كل العناصر المكونة للجريمة وهذا أمر بديهي بحيث لا يمكن أن نتابع شخصا بجريمة ما إلا إذا نجحنا في إثبات العناصر والأركان التي تقوم عليها.

     ونلاحظ أن هذه المسالة تحيلنا على التكييف، والتكييف في م .ج هو من أصعب و اعقد المواضيع ومن خلاله يمكن تاطير نموذج قانوني على اعتبار أن الجرائم هي نماذج لوقائع، وقد تكون بالتركيب والتعقيد ما يصعب أن تهتدي إلى نماذج من النماذج المقترحة من طرف المشرع الجنائي، نحن هنا نتساءل هل النيابة العامة ملزمة بإثبات من جهة العناصر والأركان التي تقوم بها الجريمة، و كذلك في باب التزامها وتحملها لعبء الإثبات عليها أن تثبت أيضا ما إذا كانت هناك أسباب مبررة وهذا فيه نقاش وخلاف حاد.

 فهناك من يقول بذلك وهناك من لا يقول به، بصفة عامة النيابة العامة ملزمة بتكييف الفعل في العملية الاثباتية، وبالتالي لا بد لها أن تهتدي من خلال الوقائع التي أمامها إلى نص يجرم ويعاقب، وهذا ما يسمى بالركن القانوني للجريمة، ومن اللازم على النيابة العامة أن تنجح في وضع يدها على تكييف للجريمة، بمعنى أنها لابد وان تثبت أن هذا النص المجرم والمعاقب غير ملغى، و أن تثبت بان هذه الأفعال غير متقادمة و لا يشملها عفو، هذه كلها تدخل في التزام النيابة العامة في الإثبات وهذا كله يدخل في ما يسميه الفرنسيون Le préalable légale a la poursuite .

       لا بد من احترام هذه المعطيات الأساسية قبل أن نمر إلى إثبات كل من الركنين المادي والمعنوي، فبالنسبة للركن المعنوي لا بد للنيابة العامة أن تنجح في الوقوف واثبات تماثل الواقعة الإجرامية والنص المجرم أو المعاقب، و لا بد لها أيضا أن تقف على الظروف المؤثرة على تكييف الفعل، سن الضحية مثلا صفة الفاعل …وبالطبع ما يقال هنا يقال عن ظروف التشديد، هذا كله يدخل في الجانب المتعلق بقيام الركن المادي للجريمة وعليه يمكن القول بأنها عناصر لا بد وان تنجح فيها النيابة العامة حتى تتحلل من عبء الإثبات.

* طالبة باحثة بشعبة القانون/الرباط

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد