مطار “هواري بومدين”: كرم جزائري ووجهان راقباني في الزحام
وقائع غير منتظرة ومشاعر جيران حقيقية
أحمد الجَــلالي
من فندق “اللاندمارك” بقلب العاصمة عمان أقلتني سيارة أجرة إلى مطار الملكة علياء. لم يكن معي متاع ثقيل وهو الأمر الذي سهل تنقلي في ذلك المطار الجميل. سحنات وأجواء عربية أصيلة. الأمن في كل مكان. شعب يقظ يقع في منطقة أكناف بيت المقدس، والأردن أيضا شعب مثقف وبه كتاب وشعراء وفنانون منيت النفس منذ ذلك الزمن بالعودة إليه في عطلة مفتوحة لاستكشافه جغرافيا وإنسانيا.بعد حوالي ساعتين أقلعت الطائرة تشق الفضاء نحو شمال أفريقيا، تحديدا الى مطار هواري بومدين بالجزائر.
في كل وسائل النقل المعروفة ومهما طالت رحلاتي أبدا لا أنام: في سيارة النقل أقود السيارة بعيني جنب السائق أو خلفه. في الحافلة قد تستمر الرحلة ليلة كاملة ولا أنام. في القطار قد أغفو قليلا لكني لا أستطيع أن أنام مهما بلغ مني التعب.
لكن، في الطائرة، ولا أملك لذلك تفسيرا، أروح في سابع نوم بمجرد أن تستوي الطائرة في الجو. وفي هذه الرحلة أيضا نمت نوما عميقا حتى وقت تناول وجبة الغذاء.
أيقظتني مضيفة لطيفة من أصل هندي. تتحدث انجليزية بلكنة ليست غريبة علي. قلت لها لقد حلمت قبل أن توقظيني أني في نيو دلهي اتناول وجبة دسمة.ضحكت وانصرفت وعدت أنا بعد الأكل لأنام وارى أحلاما جديدة.
كان ضمن الرحلة حجاج جزائريون بلباس تقليدي رجالا ونساء. أصواتهم ترتفع وكأنهم في قراهم. ذكروني بقومي في باديتي. نحن شعب واحد في بلدين منفصلين. نحن توأم فعلا.
كانت هذه واحدة من أطول رحلاتي جوا. في النهاية شبعت نوما واستيقظت. قرأت في مجلة بعض المواضيع ثم مللتها. أفضل الروايات في سفري، وكتب الفكر في فصل الشتاء والشعر في الخريف. شهيتي للقراءة يتحكم فيها الزمن والمكان وحالة الطقس.
وأخيرا تجاوزنا تونس وبدأنا نقترب من الجزائر. هنا تداعت إلى الذاكرة كل الأمور التي احتفظ بها عن هذا البلد الجار والذي جعلته السياسة يبدو لنا كبلد بعيد وراء البحر.
تذكرت تلك الفتاة الجزائرية التي قررت ذات مراهقة أن أراسلها لكني لم أتوفر على ثمن الطابع البريدي للمراسلة خارج الحدود فعدلت عن هذا المشروع. تذكرت رابح، زوج البرازيلية باولا، حين عزمني على كسكس بمناسبة عقيقة ابنه ذات هجرة في إنجلترا.
تذكرت كل ما كتبت عن الجزائر وقفز الى ذهني اسم بوعلام غمراسة، زميل لبق جمعتني بهد ظروف عمل ومكالمات عن بعد. تمنيت ان ارتشف مع فنجان قهوة.
حطت الطائرة في يوم قائظ على مدرج مطار هواري بومدين. كان يتوجب علينا خلال حوالي ثلاث ساعات انتظار الطائرة التي ستقلنا الى الدار البيضاء.
دخلنا المطار ولم تكن الإجراءات بطيئة. ها نحن في ترانزيت هواري بومدين. نزلت نصف نائم وكان الحل شرب قهوة وقبلها لابد من اقتناء بعض الأشياء. بالمطار محل تجاري أنيق. جلت خلاله وانتقيت بعض الأغراض منها ماء وسجائر ومشروب.
حييت مسؤولة المتجر وبعد ان حسبت ما علي دفعه أخرجت لها ما كان معي من عملات: بضعة دنانير أردنية ومائتي درهم مغربية. تأملتني قليلا وعرفت أني مغربي فتبسمت وسألتني إن كان معي يورو او دولار فاعتذرت وحاولت ارجاع المقتنيات فمنعتني و أصرت أن آخذها هدية منها وختمت الموقف بالعبارة التي لن أنساها: مرحبا بابن الجيران.
“شكرا يا ابنة الجيران الأعزاء” قلتها في نفسي ومضيت شاكرا لها صنيعها ولطفها. ومن المتجر رأسا إلى الكافتيريا حيث يقف شاب نشط لا يختلف في ملامحه عن أي مغربي من البيضاء او القنيطرة او قلعة السراغنة.
بمجرد ان حييته وطلبت قهوة بمواصفات معينة عرف أني مغربي فسألتي: واش راك يا بن عمي؟ ثم انطلق في حديث رياضي عن الرجاء والوداد. رحب بي كثيرا وقدم لي القهوة وكرر سلوك صاحبة المتجر: أقسم الا يأخذ مقابل القهوة التي ارفقها لي مع بسكويت ومياه باردة كنت بحاجتها.
بعد ساعة كنت شبعت انتظارا وقهوة ودخانا. جاءني “بن عمي” بقهوة ثانية مجانا وتحدث معي قرابة ربع ساعة ثم غادر للعمل.
بفعل فنجاني قهوة تيقظت على الآخر وبدأت أتأمل المطار والناس وأثار انتباهي وجهان لرجلين حسبت أني رأيتهما في كل مكان بالمطار: في نقطة الجمارك وحيثما رحت.
هل كانا من عناصر أمن المطار أم من الاستخبارات؟ لا أدري. وبدأت التساؤلالت تراودني: لم المراقبة؟ هل يعرفون أني ذلك الصحافي الذي طالما قارع سياسة حكومتهم تجاه وطني؟ هل يمكن ان يستنطقوني حتى وأنا في وضعية “ترانزيت”؟
طردت هذه الوساوس وقمت للتجول في المطار كله لأرى نهاية ما يمكن أن يفعله هذان “الوجهان”. عدت للكافتيريا وواصلت النقاش الكروي مع ذلك الشاب وإذا ب”وجه” يقترب ثم جلس و أعطاني ظهره فتذرعت بولاة السجائر وقصدته. كان مدخنا فناولته “ماركيزا” مغربيا وقلت له لقد تشاركت الطعام مع أخي هذا دعني اشاركك الدخان فضح حتى قهقه وقبل مني “الماركيز” وأهداني علبة دخان جزائري وبعد نهاية حفل التدخين المغاربي تمنى لي رحلة طيبة وغاب في الزحام.
حان وقت المغادرة ودعت صديقي الجديد وعدت لألقي التحية على صاحبة المتجر واتجهت نحو الطائرة. بمجرد دخول “الخطوط الملكية” تشعر بدفء العودة الى حضن الوطن. الوطن الذي نضجر منه بسبب بعض الفاسدين سرعان ما نحن اليه ترابا وهواء بمجرد ان نغادره أياما.
كلما اقتربت الطائرة الى المغرب كنت أشعر بنوع من اليتم بدأ يفارقني.
ها نحن فوق الدار البيضاء تماما. نزلنا ومرت الإجراءات الروتينية فدلفت بحقيبتي أجرها نحو مقهى مقابل لمكان انطلاق القطارات صوب القنيطرة.
استراحة أخرى على الطريقة المغربية.قطعا لا تشبه سابقتها في “هواري بومدين”. كانت الصور مزدحمة جدا في رأسي من تونس والجزائر والأردن وفلسطين.
استرخيت قرابة ساعتين ثم حي على القنيطرة من حيث انطلقت هذه الرحلة التي تحولت إلى “كتاب”. وصلت مدينتي ليلا. ها أنا بمحطة القطار التي تربطني بها ذكريات لا تحصى.
وقفت سيارة الأجرة. صعدت متثاقلا. سألني السائق: من أين أتيت تبدو كنت في الخارج؟
صمتت قليلا: كنت في فلسطين، ثم رمقت وجهه في المرآة.
حملق في غير مصدق: قلت فلسطين؟
نعم، أجبته.
هل أنت جاد؟ سألني
كررت كلامي: نعم، كنت في القدس.
كاد يقبل كتفي تبركا ثم سألني بلهفة: وكيف حال إخوتنا في فلسطين؟
قلت له: أنا صحافي كاتب و إن طال عمري سوف أجيب عن سؤالك هذا بكتاب عن رحلتي الى الارض المقدسة.
هل وفيت؟