أحمد الجــلالي
كنا طلابا وحلت عطلة المسيرة الخضراء، وعز علي أن يبقى صديقي المستشرق الأمريكي إريك لوحده في الإقامة الجامعية، حيث القنوط والقطط سيدة المكان عند رحيل الطلبة أيام العطل.
دعوته ليرافقني إلى البادية ضيفا على أسرتي فلم يتردد بل لمعت عيناه استعدادا لاكتشاف جزء آخر من مغرب جاء ليدرس فيه ستة أشهر ثم يعود إلى نيويورك.
استقلينا القطار في جو بارد ماطر،وقد كانت السماء تمطر “أبقارا وكلابا” كما يقول المثل الإنجليزي. كنت أرتدي ما توفر لدي من ملابس الشتاء مجازا، وكان يلتحف عتاده الأمريكي الملائم للفصل المطير.
وصلنا القنيطرة قبل المغرب، ومنها استعملنا سيارة الأجرة إلى سيدي علال التازي،ودخلنا الدوار ليلا.
لم يكن في ذلك الزمن هاتف ولا واتساب ولا أي من هذه العجائب التي أخذت لب الناس وأبصارهم. دلفنا إلى المنزل،واستقبلنا الكلب “دوغول الثاني” بنباح يمزج بين الترحيب والتشكيك، لأنه اشتم رائحة شخص أجنبي الرائحة على خياشيمه.
قبل أن نلج البيت سأليني إريك كيف ينبغي أن يسلم على والدي رحمه الله، قلت له افعل كما سأفعل. قبل هو الآخر رأس أبي ووقف في احترام.
سألني الوالد مرحبا: أين التقيت هذا النصراني؟ قلت له إنه زميلي في الدراسة، ثم جلسنا في بيت الضيوف الفسيح.
رأيت في عيني والدي توجسا وغير قليل من الحيرة، فقد كانت المرة الأولى التي يدخل بيت الأسرة “نصراني”. ولأن إريك كان يتعلم العربية الفصحى فقد بادر أبي بجمل جعلته ينشرح ويردف لضيفنا كؤوس شاي معتق كان هو فقط من يملك سر تحضيرها، وإريك يشربها دفعة أو دفعتين ويرجع الكأس لأبي مع عبارة: شكرا إنه لذيذ.
لم ينس أبي أبدا ذلك الأمريكي الجميل خلقا وتصرفا، كما لم ينس إريك والدي، ولازلت أحتفظ برسالة تعزيته الحزينة لي في وفاته.
في اليوم الموالي جلنا في أنحاء القرية بين الحقول، وفي رحاب قصب السكر كان إريك كلما التقى راعيا سلم عليه وداعب خرفانه.كان وما يزال محبا للطبيعة والحيوانات، ولقد حققه حلمه بتأسيس ضيعة نموذجية فيها الغرس والماشية،وفق تصوره لاقتصاد صديق للبيئة ومنتوج صحي.
في مساء ذلك اليوم أصابتنا معا حمى لم يسبق لي أن عشت مثلها في حياتي لى اليوم. ولقد ذكرتني أعراض “كوفيد التاسع عشر” بها:اختناق وحمى رهيبة وتعرق وغياب جزئي للسمع والبصر. كنا نرتعد تحت الأغطية وكان أخشى ما أخشاه أن يموت صديقي الأجنبي أو يصاب بسوء لسببين: إنه صديق عزيز علي وضيف أسرتي وضيف بلدي.
عند الإفطار جاءتنا الوالدة رحمها الله بأكلات كلها توابل لا أدري أين كانت تحتفظ بها، وعند الغذاء أيضا تناولنا وجبة غنية بالخلطات، ونفس الأمر تكرر صبيحة اليوم الثالث.
إريك خفت حراررته وتحسن صوته لدرجة أنه غنى ورقص على الطريقة الإيرلندية، ثم مازح الكلب مخاطبا إياه في تقليد لوالدي: سير أتسير الله يقدرك.
أكملنا برنامج العطلة بزيارة القنيطرة والرباط ودار الكداري، حيث اجتمعنا على قصعة كسكس بلدي على الأرض ولم نبق منها حبة أو قطعة خضر.
توالت الأيام إلى أن حان موعد العودة. ولكن حال وصولنا إلى الحي الجامعي استبدت بنا الحمى أشد مما صنعت بنا في الدوار.
كانت حرارة لا أدري كيف أشبهها كلما خطرت ببالي بأرض تزناخت حين زرتها صيفا العام ألفين. كنت أغلي تحت الغطاء، وكانت ملابسي تتصبب عرقا، وكلما غيرتها غمرتها سيول العرق.
كان زملائي يذهبون لدراسة صبحا ثم يعودون أياما وأنا على الحال نفسه. وكان إريك يتحامل على نفسه ويغادر غرفته ليأتي إلى غرفتي للاطمئنان علي وهو لا يقل عني مرضا.
لا أدري كيف حصل على أدوية أمدني بنصفها وصرنا نستعملها بضعة أيام إلى أن قمنا بعد عشرة أيام سوداء مرت علينا.
عندما خرجت للساحة بعد شبه حجر طبي كنت مشوش الرؤية وكان إريك أقل حيوية من ذي قبل.
كنت أتحسس مناطق جسمي فأشعر كما لو أني أتماثل للشفاء بعد تعذيب وحشي تعرضت له من مجهولين.
أما صديقي الأمريكي فقد تغير لونه قليلا لكنه سرعان ما استعاد قوته بفعل بنيته التي تشبه رجال المارينز.
مرت سنوات وأنا أتذكر تلك الواقعة ومعها آلام حمى وتنفس وضعف في الجسم، وحين حل هذا الوباء بالعالم صرت أراجع صفحاتها وتفاصيلها فوجدت أنها “كورونا” قديمة تنتمي للقرن العشرين تقاسمها جسدان أحدهما أفريقي مغربي والثاني أمريكي ذو أصول إيرلندية.
دمتم سالمين.
www.achawari.com