في القدس بكنيسة القيامة ..”أسست” جمعية “الإنسان أولا” بعد اشتباك مسلح

القدس المحتلة: أحمد الجلالي

كان من بين فقرات برنامج المؤتمر زيارات لأماكن محددة تخللت أشغال فعاليات “دورة القدس”. وبما أننا في بيت المقدس فما أكثر الأماكن التاريخية والمقدسة بهذه المدينة التي تعبق برائحة التاريخ الإنساني.

وبعد وجبة غذاء رائعة دعانا إليها محافظ القدس، أهدانا في نهايتها قنينات لزيت زيتون الأرض المقدسة، على سبيل التبرك والتذكار، لازلت أحتفظ بها كما هي وأنوي تركها إرثا لمن بعدى.

وبعد  لقاءات مع الصحافيين الفلسطينيين المشتغلين بعين المكان، وأحاديث ودية ومهنية طغت عليها العواطف والتعبير عن التضامن وهموم الاشتغال تحت نير الاحتلال وما يمارسه من تضييق وعجرفة، تحركنا جماعة إلى كنسية القيامة.

والوصول إلى هذه الكنيسة القابعة داخل أسوار البلدة العتيقة يجب أن تبدأ من “باب العامود” نزولا. سرنا في ذلك الطريق الحجري، ولعله يعود للعهد الإمبراطوري الروماني، وقد يكون السيد المسيح نفسه سلكه، وعلى اليمين واليسار عشرات المحلات الفلسطينية التي تقدم من الأكلات والمشروبات ما يجعل المشهد جنة على هذه الأرض.

وفي ذهابنا إلى الكنيسة وعودتنا منه أصبت مشروبات وحلويات لا أعرف لها اسما لكن مذاقها ورائحتها مازالتا تحت اللسان.

وتقع كنيسة القيامة ، وهناك من يسميها “كنيسة القبر المقدس” في أحضان أسوار البلدة القديمة بالقدس، وقد شيد هذا الصرح العظيم في مكان الصخرة التي يعتقد المسيحيون أن يسوع “صلب عليها”. وتعتبر هذه البقعة أقدس الكنائس المسيحية على وجه الأرض. وقد وقفت على  صخرة “القبر المقدس” والتقطت جنبها واقفا ومقرفصا صورتين.

ورغم أني مسلم ولا أشاطر إخوتي النصارى معتقدهم حول “صلب المسيح” لكني شعرت ببالغ الاحترام للمكان والإجلال لمشاعر أهل هذه العقيدة. وبالمناسبة فمن خلال تجربتي مع مسيحيي الشرق العرب فخطوط الشعور بالاختلاف معهم رفيعة جدا بل لا تكاد تظهر لأن القاسم الثقافي حبك النسيج بشكل رائع وساحر. وعندما التقيت  المطران الفلسطيني عطا الله حنا، رئيس أساقفة سبسطية للروم الأورثوذكس، فلم يختلف شعوري وأنا أحدثه أو وأنا استمع إليه متحدثا إلى الصحافيين عن إحساسي وأنا في حضرة علماء المسلمين والمناضلين العرب في شيء. يا لعظمة العروبة حين تتمازج مع التعايش والتدين الحقيقي.

وصلنا مدخل الكنيسة جماعة لكن بمجرد ذلك تفرقنا ولم يكن معي هاتف محلي للتواصل، وكان أن انضم إلينا زملاء من القدس لا أعرفهم بالإسم، وتحسبا لأن أتوه عن المجموعة وسط حشد كبير من المعتمرين ركزت بصريا على اثنين كمنارة للاهتداء عند الضرورة.

طوائف كثيرة من المسيحيين من بلاد الله الواسعة وبكل اللغات يحجون تباعا إلى هذا المكان. الترانيم تتلى على كل شكل ولون، وأزياء “خدام الرب” لا تخطئها العين. رأيتهم بعضهم قبل الوصول يتحركون من بين أزقة المدينة العتيقة. موسيقاهم  وأناشيدهم وهم يسيرون جماعة لا أدري لما عادت بي إلى طفولتي وأنا اشاهد سنويا طائفة عيساوة ببلدتي تتجمع في شكل مهيب ومخيف قبل توجهها إلى مكناس بمناسبة عيد المولد لزيارة ضريح الهادي بنعيسى المسمى أيضا الشيخ الكامل.

وقفت قليلا أمام بعض المتاجر ورأيت المسبحات تعانق الصلبان معلقة في منظر رمزي ولا أبهى. كما عرفت الطريق إلى مسجد سيدنا عمر الملاصق تقريبا للكنيسة. عمر الفاروق مضرب المثل في العدل الذي عدل فأمن فنام بشهادة رسول بيزنطة إليه ترك الكنيسة لأصحابها وأمر للمسلمين ببناء مسجد خاص بهم كي لا يزاحموا من هم أقرب مودة للذين آمنوا أو يغلبوهم على أمرهم بعده…ومع هذا كم كثر أولئك المكابرون الذين يريدون تلقيننا مبادئ التسامح والتعايش بين الملل والأديان؟

دخلت الكنيسة وتوقفت إلى اليمين عند المكان الخاص بالأرثوذوكسية الشرقية وتحدثت إلى القيم عليها، وهو شاب في منتهى اللطف. تحدثنا في عموميات ولما عرف أني مغربي بدا على محياه فرح وترحيب غامر.

دلفت إلى مكان يلي تلك التحف التي لا عد لها إلى اليسار فتوقفت بهدوء أمام قاعة كبيرة بها أناس يؤدون الصلوات بطريقة وإيقاع جميل، ثم بعدها مكان آخر بهندسة ساحرة ورائحة طيبة. ولأني كنت مدخنا ساعتئذ فقد خرجت إلى الساحة البرانية وتناولت دخينة واقتعدت الأرض أنتشي مفكرا في هذا الإنسان الواحد/المتعدد: نصلي للسماء ونتقتل، ندعو إلى الرحمة ونتقاتل نزعم النزوع إلى الحرية لكن اليهودي يحتل البلد المسلم/المسيحي ويطحن أهله ويشردهم ويقتلهم…مرت في ذهني بسرعة كل القصص والروايات والأحاديث والأشعار وحتى النبوءات المرتبطة بهذه الأرض المقدسة في آخر الزمان…نعم المسجد الأقصى الذي قال عنه خالق الأكوان “باركنا حوله” وأكناف بيت المقدس وصولا إلى الأردن. سيطر علي خاطر أننا في “آخر الزمان”..لا أدري السبب.

رفعت بصري مفكرا في سيجارة أخرى من عدمها فالتقى طرفي بعسكري عبري يحمل رشاشا ويتسمر مديرا ظهره إلى الحائط فيما عيناه من تحت الخودة في اتجاهي وكأنهما رشاشان من رصاص من معدن آخر.

ولكي أتعامل مع هذا الموقف أشعلت سيجارة أخرى ورحت أتلذذ بها وعيني في اتجاهه عنوة. ومع كل رشفة دخان أتخيل سيناريو معينا تراوح بين ارتيابه بي ورشي بالرصاص دون أن يكون لي متسع وقت لفعل أي شيء أو أني اخطف منه ذلك الرشاش وأسحبه وعنقه تحت ذراعي الأيسر وأغلق عليه غرفه من غرف الكنيسة ثم أضع الرشاش على جبينه وأعطيه عهدا أني لن اقتله فقط أريده أن يجيبني على بعض الأسئلة:

ــ هل أنت راض عما تقوم به كمهنة للتعنيف وتقتيل شعب نبت على هذه الأرض قبل آلاف السنين؟

ــ هل تظن كيهودي أن النبي موسى وإله عيسى وموسى راضيان عم تقترفه “دولة إسرائيل”؟

ــ  هل أنت واثق من قيام “إسرائيل الكبرى” وأنت بأرض كنيسة “القيامة”؟

ثم ارد إليه رشاشه بعد أن أفرغه من الرصاص واحتال عليه كي نخرج بتصريح مشترك نقول فيه لوسائل الإعلام: “إنه مجرد سوء تفاهم بصري تطور إلى احتكاك مسلح تغلبنا عليه بالحوار الثقافي المتحضر داخل الكنيسة وقررنا نحن الممضيين أدناه أن نؤسس جمعية للسلام العالمي تحت إسم: الإنسان أولا”.

بدا وكأنه يتململ في اتجاهي، وهنا “فعلت برنامجي” وأنا من سرت إليه حتى صار بيني وبينه متر أو يزيد قليلا وقصفته بإنجليزية تميل إلى لكنة سكان لندن سائلا إياه إن كانت بحوزته قداحة.

لا أدري لم ارتبك وبدا عليه بعض التوتر لكن معتمرا لاتينيا أسعفني بالولعة ــ ويا ليته كان يشعر بما بي من لوعة ــ شكرت المعتمر وأشعلت لفافة “ماركيز” أخرى وكتفي يربو قليلا على منكب العسكري وكلانا ينظر باتجاه الساحة. مكتنا دقائق على ذلك الموقف لا نكلم بعضنا ولا نتبادل النظرات.

لعله قرأني ما يكفي فشعر ببعض الاطمئنان، هو الذي أسس معي جمعية “الإنسان أولا” في عالم الخيال،  وفجأة ولاني دبره ومضى إلى ركن آخر..ربما ليرتاب في مدخن ذي سحنة “فارسية” مثل سحنتي، وهذه حقيقة أكدها لي طبيب أسنان من أصل إيراني وسائحة من اسفهان في السويد وطالبة طب من طهران في انجلترا.

وهو يتوارى عن ناظري تبعته بسؤال شبه مسموع وبكل اللغات واللهجات التي أعرفها : متى ترحلون ؟

www.achawari.com

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد