أحمد الجَـــلالي
الموت، ماذا عن الموت؟ كتبت كثيرا عن الحياة ومشاغلها مرات بحماسة وأحيانا بغضب وفي مناسبات جمة بغير قليل من الحنق والسخط حتى. وفي خضم لعبة الحياة التافهة نسيت أ تناسيت أن أكتب وأسجل خواطري عن الأهم في هذا الوجود: إنه الموت.
يسعدني اللحظة أن أكتب عن الموت. هل هناك من “يسعد” وهو يتحدث عن الفناء والنهاية؟ نعم هناك من يفعلون على قلتهم وأريد أن أكون في زمرتهم، وعن وعي تام و إدراك لا غبار عليه و لا سديم.
تريد أن تبقى حيا؟ الجواب حتما “نعم”. ولكن لماذا تتمسك بالحياة و إلى متى وأن تدرك أن لحظة البداية هي الانطلاق الحقيقي للعد العكسي؟
لك مبرراتك للتعلق بهذه الحياة؟ نعم صحيح وأنت مستعد لكي تحاضر وترافع من أجل إقناع هذا الوجود أنك الوحيد الجدير بالبقاء من بين كل هذه “الأنواع” من أصغر القشريات إلى الجد الأول للديناصورات التي انقرضت مرورا بسمك السلمون الذي يقطع آلاف الأميال عكس تيار الماء ليضع بيضه ويموت مباشرة بعد ذلك.
تريد أن تعيش إذا؟
كم قد تعيش يا أنت: ستين أو سبعين أو مائة ونيف من الأعوام. هذا سقف عيشك. ثم ماذا؟ سوف تموت، والمشكلة أنك لا تجادل في حتمية الموت لديك وإنما في تأجيل الموعد ذهنيا، رغم عدم توفرك على إشعار مسبق بخط الوصول.
تريد لهذا الجسم أن يستمر بصحة وقوة وفي كل يوم وسنة أنت لست أنت بعد أن تبدل معظمك فيك وأنت لا تدري. قد تتطلع في المرآة مستكشفا جغرافيا ملامحك أو تتعرى لتتفقد أحوال تضاريسك وماذا صنعت بها وفيها العناصر.
تريد أن تبقى في الحياة من أجل أموالك. مالها أموالك؟ تريد لها أن تتكاثر ثم تتكاثر حتى لا تستطيع عدها. ثم ماذا؟ أن تستثمرها في مجالات أوسع لتتسع هذه الثروة..ثم ماذا؟ ثم تصنف من بين أغنياء العالم أو أغناهم على الإطلاق…مبروك عليك..ثم ماذا وهل من ضمانة أنك ستتلذذ بكل هذه الأوراق المالية المكدسة في صناديق بنوك نسيت عناوينها أصلا. وهل تقدر ماكينة الجسد التي تعذبك أن تستهلك كل هذا إن قسمته على عدد أيام عمرك الافتراضي؟
تريد أن تظل بين سكان الأرض من أجل سلطة استبدت بك شهوتها مثلا؟ المبررات النفسية والبيولوجية وعقد التملك تبرر لك بعض هذا بلا شك كباقي ذرية آدم. ولكن ألم تسأل نفسك لماذا تحب السلطة؟ هل لتؤكد لنفسك أنك “مختار ” دون سواك أو أنك تنتمي لسلالة كريمة اصطفتها الطبيعة مثلا؟
فليكن، وبما أنك من محظوظي الاصطفاء الطبيعي فلماذا لم تسيطر بسلطتك هذه على الخلايا التي تموت فيك يوميا وتخرج من الجلد في شكل أحبال صغيرة رخوة من الأوساخ؟
لا تراوغ الجواب الوحيد: أنت تفعل كل هذا لأنك تخشى الموت أكثر مما تتحسر على مفارقة هذه الحياة. وأنت يا صديقتي وأنت يا صديقي مرعوبان من الموت لأنكما تتهربان من الجواب عن السؤال الأكبر: وماذا يوجد هناك بعد الموت؟ وأنتما مرعوبان أيضا من الألم أثناء الموت.
ولكي ترتاح ولو قليلا من ترقب كابوس الموت الذي يتربص بك في كل لحظة ضع في الاعتبار الحقائق التالية:
ــ لا دليل عندك أن الموت بشع وسيئ أكثر من بشاعة هذه الحياة وسخريتها، على الأقل.
ـــ لا دليل بحوزتك حول حقيقة الموت السلبية المفترضة، وما يدريك أن العكس تماما هو الصحيح، إذ على الأقل ستنتهي هواجسك وضغوطك النفسية و آلامك الجسدية كلها بعد الموت مباشرة.
ــ بعد أن تموت لن تصبك لديك أي مشكلة، وليصنع من تركتهم خلفك ما يشاؤون بثروتك وديونك وجسدك حتى. أنت هنا ولست هنا، وما أسعدك في الحقيقة حين تصبح مجرد: جنازة رجل أو جنازة امرأة.
ككل هذه “الأنواع” تمسكت بالحياة. تمسكت بها فطريا وبيولوجيا..وتمسكت بها كثيرا دون أن أحدد سببا لهذا التعلق المرضي بحياة تحيطها الأمراض من كل جهة. عاشرت أصدقاء و أقارب كانوا يعطون للحياة كثيرا من المعنى ولكنهم رحلوا دون استئذان وطووا الرحلة شبابا وشيوخا ولكن الحياة استمرت في دورتها بقسوة وعنفوان. ما الذي سينقص من هذا الكون إن التحقت أنت و أنا والجميع بمن امتطوا صهوة السفر الأخير ومروا من ذلك الباب وحيدين؟
يحضرني طيف ذلك الراعي الأمي الذي لم ير كتابا ولا مدرسة ولا سافر خارج مسقط رأسه. مات ولم يترك خلفه تاريخا ولا جغرافيا. قال لي مرة كلمة: لم يعد للحياة مذاق. هو الآن في نظري حكيم الحكماء وعالم العلماء لأنه سبق كل علماء الكون الأحياء وفقهاء الأديان المقارنة مجتمعين والباحثين في علم ما بعد الذرة..لأنه سبقهم إلى المطلق. بوابة هذا المطلق هي الموت الذي نخشاه.
يقيني أن المشكلة الحقيقية ليست في أن يموت الإنسان ولكن المأساة الحقيقية هي أن يولد أصلا. مع الولادة وخوض تجربة الوجود المعقدة اللذيذة والمرة تبدأ التراجيديا والمكابدة والصراعات والحروب بكل أشكالها وأبعادها.
يشاهد العالم على مدى عشرات الأيام في الآونة الأخيرة كرنفالا للموت في غزة والضفة الغربية. هذا الكرنفال الذي تحول إلى يوميات قتل معلن وعلى المباشر حرك أركان الكرة الأرضية واهتزت الشعوب بسبب صورة الموت المخيفة أكثر من أي شيء آخر.
وهي رسالة يجب التقاطها حين نفكر قليلا في كيف أن شخصا بعيدا عن غزة بآلاف الأميال يتظاهر ويتألم من أجل من يقتلون على مرأى من العالم. أليس هذا دليلا على وحدة الكيان الإنساني الذي يتخطى قوانين الفيزياء؟
ومقابل صور الخوف من الموت والفرار منه رغم التحصن في جوف دبابات تزن عشرات الأطنان من الحديد شاهد العالم شبابا في عمر الزهور يتسابقون من أجل القتال والالتحام مع الموت عبر العدو وجها لوجه.
ماذا تعني لكم هذه الجسارة أيها الخائفون من الموت، الحريصون على “حياة”، إن لم تكن حقيقية بلغها هؤلاء الشجعان بحيث هم من استطاعوا أن ينظروا في عيني الموت بلا ارتجاف ويقهروا الجبن ويدوسون بالأحذية على الخيط الرفيع جدا بين “حياة/موت”.
في النهاية، والنهاية كانت فعلا مع البداية، لابد من خلاصة قبل الموت. خلاصتي أن علوم الكون أعطتني فكرة عن كيف يمكن أن أعيش، والدين أخبرني بغاية الحياة والمصير، أما الفلسفة فقد ساعدتني في طريقة التفكير في كيف يجب أن أموت.
عيشوا هذه الحياة ولا تهادنوها. ولكن موتوا عشقا قبل أن تقبروا.