أحمد الجلالي
تأخذنا مشاغل الدنيا يمينا ويسارا، وتجذبنا توافه الأيام أماما ووراء. ومثل ما تتصابى بنا دينانا نقترف نحن أيضا ما يكفي من العبث باسم الأولويات والضروريات.
ولعمري هذا ما يحدث معنا نحن معاشر الصحافيين، أكنا أبناء شرعيين لهذه المهنة ومن عشاقها الذين تسري فيهم مسرى الدم وتقطن شغاف القلوب أم نازحين إليها تحت ضغوطات “أغروم” و من فئة لقيطة قطر بها سقف الزمن الأعور على جبين مجال ما عاد يخشى مغتصبوه شيئا ولا يرعوون.
نعم،تنسينا طاحونة الحوادث وكلام الساسة الذي ما عاد صراحة يغري بأية متابعة، تنسينا الالتفاف إلى ما هو أهم وأعمق وأنقى وأجمل: الإنسان.
وهذا الإنسان الذي يشاركني الصورة المرفقة، مثلما شاركني سنوات الصبا والمراهقة والشطر الأول من شبابي ليس عندي مجرد إسم قد لا يذكر ولا محض صورة تنسى. إنه أسطورة حقيقية بقي في عنقي دين الحديث عنها منذ سنوات خلت.
اسمه ادريس ماسة، وكنا ننطقها “ماصة”. وكان منذ أواسط الثمانينات إلى أواخر التسعينات من القرن الماضي يعني شيئا واحدا بكل معناه: كرة القدم مقترنة بالقوة والموهبة والأخلاق.
ولد الفتى في قلب قبيلة بني احسن قرب بلدة دار الكداري، غير بعيد عن مشرع بلقصيري، والتحق بالمدرسة الابتدائية كباقي أقراننا من ذلك الجيل، جيل العطش والأحلام، الذي جرب كل أنواع الخيبات كما جربت فيه شتى وأبشع وأفشل السياسات والتجارب الجهنمية تنمويا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا وتعليميا وصحيا ورياضيا.
إدريس “ماصة” نبت مثلنا، كالأحراش في برية إن سلمت من العواصف فذلك شأنها وإن ماتت عطشا فليس هناك من يكترث أو يقول آه. نبتنا في المكان وفتحنا البصر في ذلك المكان الخصب الجذب في آن.
لم يكن بعد المدرسة ومعها شيء يمكن أن نصنعه غير الرعي وأشغال الفلاحة كعبيد صغار، ولم يكن مع تلك الهموم الصغيرة والكبيرة على أرواحنا شيد يسعدنا غير الفرار إلى تلك الساحرة المستديرة المسماة كرة.
ولأن المكان لم يكن مزدحما فقد وجدنا ما يكفي من “المساحة” كي نسرح ونمرح ونلعب تحت تلك الشموس الحارقة، ولكن من يأبه بحر أو قر..إنها المتعة والعنفوان.
وهناك يتميز الأطفال والفتيان عن بعضهم فترفع المواهب أصحابها كما يرتفع الزيت الطبيعي على أديم الماء. وقد ارتفع كعب ادريس على الجميع وأبان عن موهبة طبيعية ولدت معه في كرة القدم.
لسبب أجهله انقطع ماصة عن الدراسة في حدود الابتدائي، ولأنه كان أصغر إخوته فلم يكن الحاج الحسين يثقل عليه المسؤوليات مثل باقي أشقائه، ولهذا كان يجد الوقت الكافي للعب الكرة يوميا تقريبا. وفي حال لم يجد مع من يلعب كان يلاعبها لوحده وكأنه في حصص تدريبية إجبارية.
لقد كنت دائما ندا لإدريس في الملعب ولم يحصل أن اصطففنا معا في الفريق نفسه في إطار أبناء القرية، لأن وجودنا مها بالمجموعة نفسها يعني تلقائيا غياب المنافسة والهزيمة المحققة لمن يواجهنا، ولذلك كنا نتقابل لإحداث التوازن، حتى ولو لم نعلن الأمر أو نتفق عليه.
كان ادريس يجمع بين السرعة والخفة والقدرة على المراوغة والتخلص من الخصم في مساحة ضيقة جدا، معتمدا على يمناه ويسراه بكل سهولة. وقد شاهدته مرارا يبدع أساليب في الخروج من بين غابة مدافعين بشكل لا يصدق.
أذكر مرة في لقاء لنا بقرية قريبة أن ادريس حيت اعترضه ثلاثة مدافعين دفعة واحدة ووجد نفسه أمام ستة أرجل في اتجاهه انقض على الكرة ضاما إياها بين قدميه وقفز بها فوقهم بكل تألق حين سقطوا أمامه ثم تخطاهم وأسرع باتجاه المرمى. لقطة أتحسر أنها ليست مصورة ولا موثقة.
كل مواصفات اللاعب الخارق كانت تتجمع في هذا الرجل حين كان طفلا ثم يافعا ثم شابا: القوة البدنية والنفس الطويل، صلابة القدمين ونظافة اللعب، الركض السريع وخفة المراوغة، المزاوجة بين اليمنى واليسرى والرأسيات القوية، البنية المثالية للاعب أسمر ساحر، البديهة في التمرير والتمويه، مع أخلاق عالية سلوكا وفرحة وروحا قتالية لا تقل عنها روح رياضية منقطة النظير.
ظل إدريس ماصة منارة رياضية لأكثر من عقد ونصف. كل صيف كنا نلتقي وكان تألقه يتضاعف، كانت كل القرى المجاورة تعرفه وفي مناسبات الأعياد تحديدا كنا نجري لقاءات ودية بأرضنا أو نسافر إلى قرى داخل الإقليم وتزيد شهرة لاعبنا المميز.
في المرحلة الجامعية بالقنيطرة والرباط كنت انتهز كل فرصة لقاء أراه مهما لأحدث من أظن أن لهم أذانا وعقولا أن هناك لاعبا لا يوجد مثله حتى بمنتخبنا الوطني. كنت أقولها وما أزال معتقدا لا مبالغا. وكنت أتمنى أن أكون السبب في أن يلتحق ابن بلدتي بفريق معروف ثم أراه بالمنتخب الوطني، كنت أحلم بأن يتألق ويكون حيث يجب أن يكون.
كنت أرى في إدريس نفسي وفي رجليه قدي وفي تسديداته ركلاتي كما أشتهيها. كنا نتنافس بكل قوة وشراسة ولكن لا يمكن أبدا أن تحقد عليه أو تحسده. كانت طيبوبته تسبقه وخلقه علامته المميزة. وما أن تفارقه صباحا حتى تشعر بشوق ما للقائه. كانت أياما من العمر جميلة رغم كل بشاعة الظروف وبؤس الإمكانات.
مرت السنوات تباعا وصرنا شبابا. وفي يوم ما وصلني خبر مؤسف هدني وكسر ظهري: ادريس أصيب بكسر في مباراة. قاسى المسكين طويلا إلى أن خف نسبيا، ولأنه يتنفس الرياضة عاد للكرة لكن ليس بالصولة التي كان عليها. لم يستطع توديع معشوقته رغم أن صحته خانته.
وككل نجم حقيقي ــ رغم أنم ظل مجهولا عند المغاربة إلى اليوم ــ جاء وقت الوداع فانسحب الشاب إلى الظل في صمت مثل محارب أصيب إصابة أعطبته عن خوض أي حرب.
صار إدريس متفرجا على الجيل الذي تلانا. هي الدنيا يا سادة حين تدور دورتها القاسية.
كنت في بداية عقدي الثالث حين زرت بلدتي مرة إلى، وفي هذه الزيارات المتقطعة لابد من السلام على العشرات، سيما من الأقران حيث المرح وحديث الذكريات.
وأنا على قارعة الطريق في انتظار الحافلة التقيت ادريس: أهلا وسهلا خاي ادريس..عناق وسلام…ثم انتبهت إلى أين وصلنا معا: كلانا صار مدخنا. شعرت بالأسى والحزن لحالنا وبالحنق والعار على مجتمع ظالم. ما تبقى من موهبة سيأكلها النيكوتين والكيف.
أشعر بمسؤولية ما تجاه هذا الرجل مثلما أحمل الهم نفسه كلما فكرت في نجم آخر سأحدثكم عنه لاحقا. أفكر في طريقة ما لإعادة الاعتبار إليه. أدعو المجلس القروي للرميلة وشباب لحرارثة وقطاع الدار البيضاء أن يطلقوا على الملعب المحلي اسم: إدريس ماصة مع مباراة تكريمية أحب أن أشارك في تحضيرها ودعمها..وهذا أضعف الإيمان والعرفان لجوهرتنا السمراء.
سلاما أخي إدريس وسقى الله تلك السنين، وعسى أن أكون وفيت ببعض دينك الذي على عاتقي كصحافي يحمل هم الناس قبل همه الشخصي.