أحمد الجَــلالي
طوال عامين ونيف جرب المغاربة العيش بلا فرح تقريبا. بل فرضت عليهم ظروف الوباء التكيف والتأقلم ليس بين الصعود والنزول على جميع مستويات الحياة فحسب ولكن العيش مع فيلم طويل ليس بين لقطة ولقطة من امتداده الزمني أية فسحة أمل أو وقفة تنفس الصعداء.
وبين طرفي بداية زمن الوباء والبلاء والغلاء وكل صنوف الفحشاء ذهبت حكومة وأتت أخرى. الأولى رحلت غير مأسوف عليها إلى درجة نسي المغاربة لحظة رحيلها مقولة “متبدل صاحبك غير بما كرف منو”.
كان المغاربة يريدون فقط استبدال ساعو بأخرى ووجوه بغيرها من فرط السأم والألم وقلة النعم.
ومضت الأيام والأسابيع والشهور، وبمرور الوقت استفاق الشعب على وعود الحكومة الجديدة، صاحبة “تستاهل أحسن”. وقال الناس إن هناك عرف مضي المائة يوم ولابد من احترامه. وكذلك كان.
وانتهت المائة يوم وانصرمت بعدها أيام ثقيلة على القلب والجيب واللسان. وكان تصريح الحكومة بعد مضي الفترة محض كلام لا يجيب عن الأسئلة الحارقة ولا يفتح نافذة استشراف لأي شيء واضح الملامح ينبئنا عن الغد…أي غذ مهما كان.
والغربي كائن صبور وواع تماما بلعبة الزمن. لعلها الجينات ذات الأصل الصحراوي هي التي تمد كثيرا منا بكل هذا الجلد وهذه التضحيات.
غير أن تفاصيل الحالة المغربية الراهنة اليوم تختلف عما سبقها من تجارب هذا الشعب مع المحن و كل صنوف الشدة سواء الطبيعية البيئية أو المعيشية أو السياسية.
إنه انحباس مزدوج. انحباس في التفكير الرسمي المبدع لحلول استراتيجية، وتوقف النخب عن الابتكار، ومعه انحباس للأمطار وجفاف الأنهار المولدة للطاقة أيضا، وانخفاض حقينة السدود إلى أدنى مستوياتها منذ عقود كثيرة.
فإلى جانب الغلاء الفاحش للمواد الأساسية والارتفاع المجنون لأسعار المحروقات بات المغاربة يتوقعون في أية لحظة قطع الماء عن البيوت وخفض ساعات الاستفادة من الكهرباء. وهو الوضع الذي لا يبدو أن للمغاربة قبلا به ولا استعدادا لتقبله أو التعايش معه.
عشنا فترة جفاف قاس في ثمانينيات القرن الماضي، وقد كنت شاهدا على سنوات من انحباس المطر ورأيت بأم العين كيف أن نهر سبو الذي كان يعني لي الماء أصبح قعره ساحة لأقراني للعب الكرة.
غير أن المغرب في تلك الفترة ورغم كل شيء صمد واجتاز الامتحان وبقي واقفا على رجليه. لكن عدد المغاربة اليوم قد يكون تضاعف نسبة إلى تلك الفترة، وبلا شك حاجيات السكان من الماء والطاقة قد تضاعفت أيضا مرات عديدة. هنا سيكون التحدي أقسى وابتداع الحلول أصعب.
وما يعقد وضعية المغرب أيضا عوامل دولية مستجدة على رأسها نذر حرب عالمية ثالثة تقودها روسيا على مشارف الأراضي الأوكرانية وما سينتجه الوضع الدولي الحالي من تعقيدات أرخت بظلامها على أسعار البترول، فضلا عن فك المغرب الارتباط مع أنبوب الجزائر للغاز، زيادة على إشكالات اعتلال الاقتصاد بعد عامين من كارثة الوباء الذي ضرب العالم وسيكون على بلادنا أيضا دفع فاتورة ثماره المرة.
ومع تزايد مطالب المغاربة وضغوطات الغلاء والجفاف وارتفاع أثمنة الغازوال يصبح انتظار تقديم أجوبة حكومية عملية على المشكلات الآنية والمستقبلية كانتظار “غودو” أو عقد الأمل على الريح ليجلب حلولا سحرية على جناح براق من عالم آخر.
ويقيني أن الحكومة الحالية لا تملك أي حل عدا عن إنتاج مزيد من عوامل تعقيد الوضعية والهروب إلى الأمام باختلاق خلافات غير ضرورية حول قضايا غير حقيقية مثل إجبار الناس على الجرعة الثالثة والدخول مع الموظفين العموميين في مماحكات ومضايقات تجعل أي عاقل يرثي لحال حكومة تتصرف كالصبيان بل جهاز تنفيذي يفترض بل يجب أن يكون زبدة عقلاء البلاد ومثالا في الرزانة في القول والتصريح والعمل وتقوية اللحمة الوطنية بل شقها في وقت حساس ومقلق وطنيا وإقليميا ودوليا.
في النهاية، ليست الحكومات سوى فريق عمل مؤقت يشتغل في فترة محددة وينتظر منه النجاح في التدبير ومواجهة الصعاب. وكل ولاية حكومية تكون أشبه بزمن مباراة كرة قدم، في بطولة معينة، تنتهي بعد الصافرة وتظهر النتائج على السبورة. وبعدها يتم حل الفريق والطاقم ويسرح المدرب ليفسح المجال لمواهب أخرى تناسب المرحلة اللاحقة.
وما يبقى في النهاية هو الدولة والشعب والأرض، أي الثوابت التي تضمن الاستمرارية للكيان بشتى مكوناته.
وفي المغرب، في هذا الظرف القاسي والخطر بالذات، لن يجدي تغيير حكومة نفعا، كما أن الإبقاء عليها كما هي ليس خيارا حكيما. وإذن، لابد أن لدة أصحاب الحل والعقد تصورا واضحا عن الخطة باء وجيم ودال…إلخ.
وكما أن للدولة المغربية العريقة مخازن سلاح واحتياطات استراتيجية للرخاء والقحط وللسلام كما للحرب، فلا شك أنها تمتلك ليس فقط بنوكا للمال وخزينة وإنما بنوك أفكار، أي العقول البشرية، وهي الثروة الحقيقية والسلاح الأكثر خطورة من النووي والكيماوي وما شاكلهما.
ولعل أحسن ما يمكن أن تقدمه ملايين العقول المغاربة للدولة ولصناع القرار هو الأفكار والنقد مهما كان قاسيا، يكفي أن يكون مبعثه الصدق والغيرة على البلاد والعباء.
ويسعدني أن أقدم هنا بعض الاقتراحات والآراء، ولا يهمني بعدها إن كنت صاحب رأي “لايطاع”…لا يهمني ولا بأي حال.
ــ يجب ترشيد ما بين أيدينا من طاقة وماء وذلك بالاكتفاء بالكمية الضرورية المعقولة والحيوية منه.
ــ يجب تغيير العادات الاستهلاكية بكل قوة وحمل الناس على الوعي بخطورة الوضعية الحالية عبر وسائل الإعلام الرسمية النائمة.
ــ يجب الكف عن الترف المائي والكهربائي كمنح مسابح الفلل وكل ما يستهلك الماء في غير محله، مع فرض الصرامة في جزاءات المخالفين مهما كان مستواهم الاجتماعي أو ترتيبهم في سلم السلطات.
ــ إصدار قانون طوارئ مناسب للمرحلة ذي صلة بسبل استهلاك الماء كي يكون لسلوك السلطات مرجعية قانونية مستمدة من البرلمان..الذي بصم على أكثر من مائة يوم من الكسل التشريعي.
ــ تجريم زراعات كانت ولا تزال تسرع ذهاب المغاربة نحو العطش وعلى رأسها زراعة “الأفوكادو” الذي يتطلب مناخا مداريا مشبعا بالماء، وليس بلاد المغرب حيث تحتاج الشجرة الواحدة من هذه النبتة من الماء يوميا ضعف ما تستهلكه أسرة متوسطة من حيث عدد الأفراد.
ــ مد مغاربة البادية تحديدا بمستلزمات توليد الطاقة الشمسية بأسعار تخصم من ضريبة تضامنية على الثروة تفرض بقانون أيضا على الطبقة البورجوازية والإقطاعيين وكائنات الريع التي عاشت مثل العقل عقودا تتغذى من وعلى دعم المغاربة.
ــ تسهيل مسطرة حفر الآبار من أجل شرب الماء للبشر وباقي الكائنات وعدم استغلال مأساة الطفل ريان من أدل تعقيد الوضع بلا داع لأية بيروقراطية، نعي جيدا كيف تنغص حياة المواطنين التي طفح بها أصل كيل المنغصات.
ــ تحويل ميزانيات قطاعات ليس محددة لحياة الناس مثل كرة القدم وباقي الأنشطة غير الضرورية نحو مشاريع تحلية مياه البحر، التي ستبقى بعد الجفاف بنيات استراتيجية قوية لمواجهة مستقبل سيطبع عالميا بحروب المياه.
ــ تحويل دعم الأحزاب والنقابات وجمعيات لخوا الخاوي رأسا إلى مشاريع منتجة للماء والطاقة في البوادي والقرى.
ــ تحويل ميزانيات المهرجانات واللقاءات الكبيرة من أجل”التبناد والواجهة” رأسا إلى دعم أعلاف رؤوس ماشيتنا التي سوف تعاني وستموت منها أعداد نحن في مسيس الحاجة إليها غذائيا واقتصاديا.
ــ تشجيع المغاربة ودفعهم دفعا إلى سنة حميدة جدا من أجل يوم في الأسبوع بلا سيارة أو دراجة نارية. شجعوهم على المشي وامتطاء الدراجات الهوائية…وسوف ترون الفرق.
ــ تشجيع وسائل النقل الجماعي ومد مزيد من خطوط القطارات والترامواي من أجل خفض الاستهلاء الشخصي للطاقة.
ــ تأميم كل سوق المحروقات لصالح الدولة المغربية ليكون قطاعا سياديا محميا من قبل الدولة من كل المضاربات والسمسرة والفساد والاحتكار.
إنها مجرد أفكار ومقترحات يا سادة، نابعة من عقل مواطن جرب هو، مثلما فرض عليه غير ما مرة، معنى السقوط والإسقاط في كل أنواع “آبار” المحن والمطبات… ويعي ــ هو ــ معنى الجفاف والعطش وموت الزرع ونفوق الحيوان…والجوع…وانقشاع السحاب..والأهم طعم الخيبة حين تضحك الشمس يوميا في وجهك بينما أنت في لهفة لكي تبكي عليك السماء.
رحم الله ريان….الذي قد يكون مات وهو متعطش لمجرد جرعة ماء…مثلما تعطشت قبله والدته إلى “جغمة” من ذلك البئر الملعون الذي صار قبرا لفلذة كبدها.
حفظكم الله جميعا.