أحمد الجلالي
لعله عنوان غريب. أعذركم، فلعل كثيرا منكم لم يعش هذه المفارقة، وليس من العدل افتراض أنكم جميعا مخضرمون، عبرت بكم الحياة بالتالي عبر جسر التجربة ما بين ضفتي الصدق والصداقة والغدر و”تكلباويت” / “تكلبانيت”.
حتما سأروي لكم مستقبلا قصتي مع كثير ممن حسبتهم أصدقاء فاكتشفت في نهاية المطاف أنهم أبناء كلب.أولهم اللعين الملقب “باليماكو” ..إلى آخر السلسلة العطنة حيث يقف عاريا الخسيس الملعون “طكعان”.
ومع الاحترام اللازم للكلب، هذا الحيوان الرائع، المظلوم في ثقافتنا، ولكي أعيد لهذا النسل الجميل اعتباره سأروي لكم حكايتي مع كلابي الأصدقاء الذين يستحقون نعت “أبناء ناس”.
في أواسط سبعينيات القرن الماضي، فتح الطفل الذي كنته عينيه على بيئة تتميز بالماء والخضرة والحيوانات.أن أملك حمارا كان عند أبي أسهل من امتلاك حذاء ، لكنه لم يحقق لي تلك الأمنية وفضل تربية البغال والخيول والأبقار والأغنام بالعشرات والمئات. وبالمقابل، جادت علي البيئة بالكلاب أشكالا وألوانا، ولم أكن أستوردهم بل يولدون بضيعتنا كل سنة وكل فصل تقريبا.
ولسبب مازلت أجهله، كان أبي وجدي وإخواني يكرمون زعماء العالم الغربي وبعض القبائل العربية التاريخية بإطلاق أسمائهم على خيرة كلابنا.
أول كلب صديق أتذكره كان “روني” ذا اللونين الأبيض والأسود، لا أظن أنه عاش طويلا لكنه ترك طابعه الصغير على أعلى قدمي عندا أراد أن يلاعبني بطريقته.مرت أربعة عقود ومازالت بصمة روني حية ناطقة.
“باسكيل” وهي كلمة “باسكال” محرفة قليلا، نال هذا الإسم واحد من سلالة الكلاب الهجينة عندنا. اكتسب غريزيا وبلا ترويض قدرة عالية على الملاعبة والمزاح، فهو يمد يده للتحية ويقف على قائمين فقط ويدور معك حيث تدور، و قد يرتفع حد رقبتك فيعانقك.كان لونه “صراطي” أي خليطا بين الأسود والأحمر والبني وبعض الأبيض. عاش سنوات، ولم يكن يعدم القدرات القتالية عند الضرورة. فهو نموذج الكلب المتحضر الذي يفرق بين الجد والهزل.
“ديكول” يعني “دوغول” تكريما لذكرى الرئيس الفرنسي العملاق.لم أر كلبا في حياتي مثله يجمع بين اللطافة والشراسة، وبين القدرات القتالية الخطيرة و الوداعة المعروفة عن الحيوان الأليف المدجن. أما عزة نفسه فتستحق أن تروى.
كان أبيض مرقطا ببعض المربعات شبه الحمراء.بهيئة نمر بنغالي مع بعض التحويرات الجسمانية بادية العضلات والهيكل المرصوص كان يطالعني “ديكول” سنوات طويلة. وسواء جدت عليه بكسرة خبزة أم لا فلا مجال لتغيير سلوكه تجاه القريب أو الغريب. لا تساهل مع أي غريب يقترب من البيت أو قطيع الغنم، كما كانت له حدود لتحمل عبثنا نحن الأطفال. لم يسبق أن عضنا ولكن كانت له طريقة الكائنات العاقلة البالغة في صدنا. أما صوته فكان أقرب إلى الزئير منه إلى النباح. كنت أعتقد أن أصل كلبنا ذاك من الغابة وأنه نصف نمر ونصف كلب.
كان “ديكول” مقاتلا تهابه كلاب المنطقة كلها، يرافقنا كبارا وصغارا ويحمينا من كل ممر خطر بسبب الكلاب أو البشر، كان يتحمل مسؤولياته وكأنه حارس أجير وبغير قليل من الضمير.
مرة نهره أخي الأكبر، وهو من رباه، فلم يتحمل ورحل إلى مسكن لنا بعيد عن حيث كان بعشرات الكيلومترات. هناك ظل جائعا، في ذلك البيت المهجور موسميا. اكتشف الجيران أمره فأبلغونا بخيره في سوق أسبوعية، ولرد الاعتبار له كان لابد لأخي من اللحاق به و “تطييب” خاطره والعودة به. كانت لديكولي الجميل عزة نفس يفتقد إلى نصفها بعض من عرفتهم، للأسف.
أما “شيبان” فقد كان وسيبقى الرمز الأكبر لسلالة الكلاب التي فاخرنا بها فخدة “مختار” بقبيلة بني حسن كلها.
هو شقيق “ديكوا” وإسمه مميز، ويعود لقبيلة عربية معروفة، وسماه جدي رحمه الله، بعد أن أخذهما ما بين اللين والشدة من قريبتنا المرحومة طامو، على أساس أن لا حاجة لها بهذين الجروين وأن كلبتها تلد بانتظام وأن لجدي كل الحاجة إليهما بحكم وجود قطيع غنم يعد بمئات الرؤوس.. ومن تستطيع من قريباتنا أن تقول “لا” لرجل بصلابة شخصية جدي في سبعينيات القرن الماضي؟؟
كان لشيبان شكل مميز جدا: لونان قويان هما الأبيض والأسود. ارتفاع مخيف وضخامة في الصدر والرأس والمنكبين، وجلد مرقط قليلا مع زغب قوي لاصق بجسمه. كان مثيرا بضخامته والشبه بالأسود في الحركة والانقضاض، أما صوته فكان يسمع على بعد كيلومترات. كان وجود شيبان في طريق ما من القرية يعني “ابتعد” فأنت في خطر.
ولأنه من سلالة كلاب “الخمخم” الجيدة فقد كان ــ مثل ديكول ـــ لا يغدر ولا يهاجم من الخلف، بل ينبح ثم يتصدى وجها لوجه. ولا أذكر أنهما عضا بشرا يوما ما، رغم شراستهما. ربما منعتهما الثقة بالنفس من الفتك بالأطفال..أو ربما كانت لهما أخلاق حرب. يضع الله أسراره حيث يشاء.
كان مجرد هجومه على الناس أو الحيوان يثير الخوف. أما حروبه مع كلاب “عمي لخليفي” فسارت بذكرها القطعان: كانت معارك ضارية تسيل فيها الدماء وتقطع فيها آذان الكلاب. كان شيبان يبدو وكأنه يلتهم الخصم دفعة واحدة ولا يعض فقط، كان قادرا على مواجهة مجموعة كلاب دفعة واحدة، وكان يحدث أن يمسك بتلابيب واحد فيخبطه بسرعة ويرتم للتالي بسرعة وخفة مثيرتين ثم يواصل وغالبا ما كانت البقية تطلق سيقانها للريح طلبا للنجاه.
وأذكر كيف أمسك ديكول بعنق كلب وأخذ يلفه في الهواء مرارا ثم يطرحه أرضا، وأتذكر كما أمس فقط كيف يقف على قائميه الخلفيين ويقاتل أكثر من كلب دفعة واحدة.
كان شيبان وأخوه ديكول معا على العدو، لكن علاقتهما معا لم يكن فيها الكثير من الود، بحكم أنهما تربيا في مكانين مختلفين ويلتقيان موسميا فقط. كان تعايشا مفروضا وصعبا، وحين كانت تتوتر العلاقة بينهما كانا يتقاتلان قتالا نخشى معه أن يموت أحدهما.
وهما يتعاركان، كنت أبكي لسببين: لعجزي عن الفصل بيمهما ولخشيتي أن أفقد أحدهما بنابي الثاني. لم أكن أتصور بيتنا بلا شيبان ولا ديكول. ولكن للزمن رأي آخر. مات ديكول معززا مكرما حيث تربى ضواحي بلقصيري، ومات شيبان في بلدة أولاد جلال ذات ليلة مقمرة فبكاه والدي بحرقة ثم دفنه بيديه تكريما لذكراه.
أخذتني الدراسة الجامعية بعيدا عن بيئتي وسرقت المدينة كثيرا من هواياتي وهويتي. لم أنس الكلاب، ومع نهاية المرحلة الجامعية وبينما كنت مستغرقا في مطالعاتي شرف ضيعتنا كلب جميل “اسحم” اللون. كان جروا ثالث ثلاثة إخوة رائعين، لكني اخترته لي هو بالذات. سألت نفسي ماذا سأسميه؟ فكان اسمه في أحد فصول رواية ” حين تركنا الجسر” للكبير عبد الرحمان منيف. سميته “وردان”.
ومع وردان عرفت معنى الصداقة بين الإنسان والحيوان. كان ذكيا ومشاغبا ويتعلم بسرعة، ويتبعني حيثما سرت ويفهم مزاجي نحوه من قسمات وجهي. كانت به كثير من صفات “وردان” منيف الذي خاطبه على لسان البطل الإشكالي في الرواية، خاطبه بصفتين متناقضتين: “الكلب السائب” و “سيد كلاب العالم”.
كبر وردان بسرعة وكنت أطعمه وبعد أن يشبع أدلك ضلوعه بأصابع رجلي وهو مستلق..حتى صار بعد كل وجبة طعام يقوم آليا بالاستلقاء على ظهره ويشير لي برجليه أن دلكني..وفي أوج فرحه كان يمسك رجلي بين أنيابه و يخدشني برفق وكأنك يحك لي رجلي ردا للجميل.
وعندما صار وردان كلبا يافعا، طوحت بي الصحافة ومغامراتها إلى بريطانيا سنوات.وأبعدتني الظروف عن أهلي وناسي ومكاني وأشيائي الصغيرة.. وعن كلبي.
عدت ذات ليلة ممطرة من لندن إلى مراكش ومنها إلى القنيطرة ثم قريتنا ٍرأسا. دخلت البيت وكان ذلك اللقاء العائلي الحار. وبعد قرابة ساعة نهضت لأفتش عن وردان. كان قد صار أسدا حقيقيان ولتفادي أية حوادث بسببه في القرية قرروا ربطه بالليل أيضا.
أشفقت عليه وإمعانا في محبتي له طلبت أن يطلق سراحه تلك الليلة. وعلى مرأى من إخوتي في بهو البيت قم وردان بسلوك لا سبيل لنسيانه:عرفني بعد سنوات واحتك برجلي ولعب بذيله مرحبا.
أعطيته خبزا ولحما أظن، وبعد أن أكل استلقى على ظهره فمررت أصابع رجلي(حصة المساج) بين ضلوعه التي صارت بحجم العصي الكبيرة، وقبل أن انتهي نبهني شقيقي أن آخذ حذري..سمعته لكني في الحقيقة كان ورداني قد أعادني عقدا ونيف إلى الوراء. لم أحتط بل أكملت اللعبة: أخرجت رجلي عارية تماما ووضعتها بين أنيابه التي لو غرزها فيها لقطعها أشلاء.
وردان أجمل من هذا..هل تريدون معرفة ماذا صنع؟ حسنا، لقد حك رجلي حكا خفيفا بتلك الأنياب الأسدية..تماما كما كان يفعل معي وهو بعد جرو.
ملحوظة ليست على الهامش: احتراما مني لمقاربة “النوع” لا بد أن أشير إلى أننا قد ربينا كلبتين محترمتين هما ليندا وتيريزا.. ومنهما استمر نسل كلابنا العظيمة إلى يومنا هذا أسماء ولونا وسلوكا.
طابت ذكراك كلابي الصديقة، ولا عادت لي ذكرى معكم يا من ظننتكم أصدقاء فإذا بكم “أبناء كلبة”..مع الاعتذار الشديد لكلابي من شيبان إلى وردان.
www.achawari.com