أحمد الجلالي
كان زوال يوم قائظ.تجمع أفراد الوفود العربية المشاركة في المؤتمر بعد الغذاء في باحة فندق “لاندمارك”. كل رئيس وفد يتفقد زملاءه كي يكون السفر بلا مفاجآت: التأكد من جوازات السفر، وتأشيرة المرور التي أعدتها لنا السلطة الوطنية الفلسطينية كل باسمه الثلاثي.عبد الله البقالي، رئيس الوفد المغربي،تفقدنا بالأسماء واحدا واحدا، وحتى لما تجمعنا في الحافلة كان يسأل كل واحد منا:” أين فلان؟ آه إنه هناك..لقد رأيته” ثم يبتسم بشكل يمتزج فيه حرص الرجل المسؤول وفرحة الإنسان المغربي بزيارة فلسطين وصلة الرحم مع الأشقاء.
تحركت الحافلة، ومن حسن حظي أني كنت في المقاعد الأمامية إلى اليمين، وإلى جانبي جلست سيدة مهذبة ومثقفة إسمها مجيدة النمري.مجيدة هذه ستصبح مع توالي الأيام “سفيرة” الأردن بين الزملاء والزميلات طيلة أيام المؤتمر.هي مسؤولة تواصل وإطار سياحي.لم أضيع الفرصة فسألت مجيدة كثيرا من الأمور التي يسألها أي زائر للأردن للمرة الأولى. كانت إجاباتها غنية من حيث المعلومات والتوضيح.أعطتني فكرة جغرافية عن العاصمة عمان وأحيائها القديمة والحديثة وسكان البلاد وثرائها الحضاري والسياحي.
كنت أحاول التقاط صور فوتوغرافية وذهنية لكل شبر من الطريق لكن الحافلة كانت تسرع، والصور تتلاحق هاربة.
كان يجب على كل صحافي منا أن يتوفر ـ فضلا عن جواز سفره وتأشيره السلطة الفلسطينية ـ على صورتين فوتوغرافيتين.بعض الزملاء لم تكن معهم صور، ولذلك توقفنا في قرية أمام استوديو لهذا الغرض.
نزلنا من الحافلة المكيفة لنكتشف أننا أمام فرن كبير.حرارة مفرطة ورطوبة عالية.تفضل عبد الله البقالي وأنعشنا بمشروبات باردة.كانت فرصة للاستراحة والتدخين أيضا.
دلفت إلى الأستوديو. وجدت فيه رجلا مسنا مارس هذه المهنة لعقود وورثها عن أبيه ربما.رجل بتجاعيد قاسية تروي تاريخا شخصيا طويلا وربما مريرا.المحل الصغير مزين بصور قديمة ونادرة للملك حسين وأفراد من أسرته.باختصار، المحل متحف صغير.استلمنا الصور وودعنا الرجل.
كانت الوجهة معبر “الملك حسين” ـ آخر نقطة قبل توديع الحرية واستقلال الأرض والإنسان ـ لكن قبل ذلك كان يجب التوقع قصد المراقبة في مركز به سوق حرة.فرصة أخيرة للتبضع وشراء ما يلزم من أغراض السفر..والتقاط الصور أيضا.
خضعنا لعملية لم افهمها بهذه النقطة الأمنية: تتوقف الحافلة.نخرج منها. ننزل حقائبنا.نمر إلى التفتيش.نخرج ثم نلف بحقائبنا على اليمين. ثم نعود للحافلة. يلتبس علينا الأمر أية حافلة سنستقل الأولى أم غيرها؟.نعود إلى حافلة ونضع فيها أمتعتنا. ننتظر ثم ننتظر ولا نعرف لماذا ننتظر.فجأة نصعد. زملاء غير موجودين. ننتظر..ثم يأتون فننطلق.لماذا كل هذا؟ قيل لنا هذه هي الإجراءات.لا بأس انتهت الإجراءات.. التي سنشتاق إليها في “المعبر” الحقيقي الذي ينتظرنا.
الحافلة تسير بسرعة متوسطة.نقترب من آخر حاجز أردني.نتوقف قليلا ثم نغادر.
تشعر أنك تودع عالما معلوما نحو عالم آخر فيه كل قصص مآسي القرنين الأخيرين.
كنت أجلس إلى اليمين جنب الزميلة المصرية نظيمة سعد الدين.هي أرملة مقاوم فلسطيني معروف.ولها سابق زيارات إلى فلسطين، ولها تجارب مهنية وإنسانية في غزة.كانت تشرح لي ما غاب عني.
الأسلاك تبدو في كل مكان.هنا الاحتلال. أسلاك شائكة تصعد إلى المرتفعات، وفوق المرتفعات أبراج مراقبة. وفي كل سلك مجسات، وهي أجسام إلكترونية صغيرة جدا شتتتها الاستخبارات الإسرائيلية في كل شبر لتشعر الصهاينة بكل شيء…حتى إن علق عصفور أو فأر بأحد الأسلاك استنفروا وتحركوا: الجيش الذي “لا يقهر” يفزعه جرذ أو قط أو أي حيوان ضل طريقه في هذه الصحراء وعلق بالأسلاك.
ورغم كل هذه الاحتياطات التي تكلف العقل الأمني الإسرائيلي ملايين الدولارات،أخبرني زميل يدري كثيرا في الشأن الفلسطيني أن الفلسطينيين استطاعوا ان يتجاوزوا كل هذه الحواجز، وكلما جددت إسرائيل ترسانتها التكنولوجية أبدع العقل الفلسطيني حيلة ما لتجاوزها.
الآن أدرك لماذا يتطور الإنسان الفلسطيني بهذا الشكل الذي يخيف الغرب وبعض العرب.إن لهم عدوا ليس سهلا. عدو خبيث قتال أفاك.وكلما كانت لأمة ما قضية وأعداء، بقدر قوتهم تتقوى وتتطور، وعلى حسب تخلفهم تتخلف.
الحافلة تتحرك.بدأ الصمت يخيم على الركاب. في المقدمة إلى اليسار كوادر اتحاد الصحافيين العرب، وفي طليعتهم السفير فتحي. إلى الخلف وجوه كثيرة.حافلة عربية إعلامية تتوجه إلى فلسطين لعقد مؤتمر التحدي.غبر بعيد عني الزميل أوسي موح لحسن.هذه هي المرة الثانية فقط التي التقي فيه لحسن.لم يكن يبدو عليه لا خوف ولا تعب ولا تردد في أي شيء. وفي كل مرة تصدر منه مزحة أو رأي ملفت أو يدخل في نقاش.يستعمل عربتيه الفصحى ودارجتنا العزيزة وبعض المفردات المشرقية. وعندما يلاحظ صمتي يناديني موقظا إياي:
جلالييي.
وي سيموح
صافا بيان؟
الحمد لله
تبارك الله عليك.
شكرا أخاي.
الزميل أوسي موح لحسن مغربي أصيل. صريح لا يجامل إلا قليلا. يطبع شخصيته سخاء وكرم موروثان. هو من مؤسسي “الأحداث المغربية” ويتمتع بوعي سياسي وحس مهني راقي. بدا لي يجنح إلى نوع من الزهد في هم الدنيا. خلال أيام المؤتمر سيكون حاضرا بقوة سواء في النقاشات الرسمية أو صحبة الزملاء.كانت تدخلاته دقيقة وليس فيها حشو أو إطناب.
أعود إلى المعبر، الحافلة تحركت، بعد أن تجاوزتنا حافلة أخرى.سمعت جدالا بين الزميل الزغيلات والسائق، كان زميلنا يلومه على ترك الحافلة الأخرى تتجاوزنا. سأعرف لاحقا ما معنى الوقت في هذا المكان وأهمية ربحه ولو بدقائق.
توقفت الحافلة أخيرا..يا إلهي ماذا أرى؟ المئات من الناس من الرضع إلى الشيوخ هنا واقفون.قرأت قبل أن أنزل لافتة كبيرة فعرفت أننا في معبر الملك حسين الذي يسمونه أيضا معبر اللنبي.
نزلنا جميعا.وجدنا حرارة أكثر.كنت أظن أننا كوفد رسمي من عدد من الدول العربية سننال معاملة تفضيلية، لكن هيهات. هنا قوى الاحتلال الصهيوني البشع الذي يكره كل العرب والمسلمين ويستمتع كثيرا بإهانتهم بأدق التفاصيل.
سنمر كباقي هؤلاء الإخوة من الأطفال والنساء والشيوخ المرضى والشباب والشابات.
إلهي، يا إلهي نحن على بوابة رقعة أرضية تختلف عن كل العالم الذي خلقته، وبها مهد أنبيائك، واقدس مقدسات دياناتك السماوية..ولحكمة نجهلها يستحكم فيها بشر ليسوا كالبشر.
ربي هذه هي فلسطين التي صار قتل أبنائها هواية لمتدربي الجيش الإسرائيلي.ربي إن إسرائيل عليه السلام هو يعقوب، أحد أنبيائك، فما معنى هذه “الإسرائيل” التي صنعوها؟…بضع من خواطر مرت سريعة وكثيفة في مخيلتي وروحي.
إلى الحلقة الرابعة..الخميس المقبل
www.achawari.com
