تلك الإجاصة..أريدها هنا والآن..مقابل شيك على بياض

 أحمد الجَــــلالي

نحن في العام 1981، الزمن جفاف، والوقت عطلة صيفية ممتدة. ما يكفي من الوقت تحت ذلك الحر لممارسة كل الهوايات المقموعة. المال؟ لم يكن له في عقولنا الصغيرة كبير معنى أو قيمة، فماذا عن الإجاصة ؟

ولكن لا بد من بعض الدريهمات وأنصافها وأرباعها: بقالتا عمي بودزة أو قباش تناديان على شهيتنا المفتوحة يوميا وبشكل مستفز لألسننا وأمعائنا المتلهفة لأي حشو حلو.

لا عمل ممكن لسواعدنا الصغيرة، ولكن عقولنا الصغيرة كانت تجتهد. لنسرح إذن على ضفة نهر بهت ونجمع الحلزون الصيفي الأبيض وهناك مشترون يظهرون بين الفينة والأخرى.

نزلنا الوادي في صيف ملتهب يئن تحت شمسه التراب وكل الكائنات. كنا كائنات مقاومة للحرارة والعطش بشكل لا يصدق: لا زاد معنا ولا ماء وإذا طغى العطش نهبط إلى بهت ونشرب منه كالإبل ماء ملؤه الصابون ومكونات أخرى لم نعلمها إلى اليوم.

سرنا قرابة نصف ساعة فأوقفنا الرفيق بنعيسى ووجهه يرتدي قناع خوف لا يخفى. أخبرنا أن هذا المكان المسمى “الحويطة” مسكون بالجن. زاد صمت المكان من خوفنا. كان انطلاق أي طائر يثير فينا الفزع، وتحرك كل حشرة يترك قلوبنا الصغيرة ترتجف وكأنها عصافير تريد مغادرة أقفاصها.

 التقطنا بعض الحلزون الأبيض الجميل. كنت أمني نفسي بالحصول على درهمين في ذلك اليوم لقاء جهد واضح من خلال الثقوب التي يتركها الشوك على أصابعني في ظهرها وبطنها. الحلزون الصيفية تختبيء جيدا في تلافيف النباتات الشوكية تحديدا.

 واصلنا السير والعمل صامتين متوجسين من كل شيء إلى أن وصلنا لمكان في الضفة المقابلة حيث ظهرت جنة على الأرض: مزرعة أشجار تطغى عليها فاكهة الإجاص.

بنعيسى، رفيق الطفولة الذي لا ندري من ولماذا لقبوه بـ”ابعيرا”، ثم لقبوه مرة أخرى بـ”كلوط” التي راقت له كثيرا لسبب نجهله أيضا، غير “المشروع” من جمع الحلزون إلى عبور النهر والحصول على الإجاص الذي كان يعرض مفاتنه علينا على بعد بضعة أمتار.

اتفقنا على أن تكون غارة سريعة نغنم فيها من الإجاص ما نقدر عليه ثم نتراجع بخفة حتى لا نثير أي صوت قد ينبه “العساس” فيدركنا بعصاه أو سلاحه الناري.

تقافزنا إلى النهر مثل بط بري واحدا تلو الآخر، وصعدنا جرف النهر بعد أن أدمت الأشواك ما تحت سراويلنا القصيرة المتقشفة ثم طار كل منا إلى شجرة الإجاص الأقرب إلى وضعه.

رأيها، إنها هي، تلك الصفراء الشهية الدانية. التقطتها كمن يمسك بكنز ثم قطفت أخرى وانسحبت كأي عضو في كوماندوز محترف. قطعنا النهر بسرعة ولم يعد لجمع الحلزون وقت.

كان يجب أن يكون الانسحاب هادئا ليتبعه ركض بأقصى سرعاتنا الطفولية المتفاوتة قليلا. ذلك بالضبط من طبقناه. نركص ونركض ثم نزيد سرعة الركض وقريتنا تقترب قليلا في أعيننا.

كان المضمار على بقايا حصيد صيفي وروث بهائم متيبس وجذور نباتات تدمي القدمين. لكن الدماء الساخنة في صيف حار جدا لا تجعلك تشعر بأي ألم في حينه.

ركضنا بلا توقف حوالي كيلومترين. وفجأة صرخ بنعيسى بنبرة تدعوك إلى الثقة في ما قال: العساس..العساس..العساس يتبعنا.

وتحت وطأة الخوف من العساس وفضيحة سرقة الضيعة وتبعاتها بالمثول أمام رجال درك علال التازي، على أيام قائد السرية “رشيد” تخلصنا من “المسروق”.

ترددت أكثر من مرة في رمي “إجاصتي” الغالية لكني فعلت مرغما في النهاية. رميتها كمن يرمي فلذة كبده في لحظة زلزال أو حرب أو زلزال غاشم. وقعت على الأرض فقدرت أن وزنها يقترب من نصف كيلوغرام.

واصلنا الركض إلى القرية، ولما أصبحنا على مشارفها توقفنا لنلتقط نفسنا المتقطع ولنتأكد أيضا من أن “العساس” لم يلحق بنا.

لم يظهر العساس الذي زعم بنعيسى وأقسم أنه كان يتبعنا. تحسرنا على الإجاص وعزينا أنفسنا بأننا حصلنا على كمية محترمة من الحلزون الصيفي الجميل.

ذهبت إلى البيت وشعرت بالاكتئات: من هذا الذي سوف يعتر على إجاصتي الفريدة ويلتهمها بلا أي جهد؟ أم أنه طائر سينزل عليها من السماء ليعبث بها متلذذا برزقي المستحق؟

توالت الأيام وأنا أشكك بيني وبين نفسي في ما فعله بنا “بعيرا…كلوط لاحقا”. اتهمته بالجبن وكلي حنق على إجاصتي التي ضيعها مني خوفه أو توهمه وجود عساس يتعقبنا.

تلك الإجاصة التي أضعتها وأنا ابن العاشرة ظلت تلاحقني في أحلامي ومشتهياتي. صار الإجاص فاكهتي المفضلة. ألتهم منه إلى اليوم بكميات لا تخطر على بال.

بين كل الفواكه في الحفلات الكبيرة أكتفي به وأعرض عن باقي الفواكه. في فترة ما كنت أسأل الناس لماذا ليس “بوعويد” فاكهتك المفضلة. وكن أصف من لا تروق لهم هذه الفاكهة أو يفضلون عليها التفاح مثلا بالأغبياء.

وحين كنت أنسى حكاية إجاصتي الضائعة طالما سألت نفسي وأنا في الثلاثينات عن سر عشقي لهذه الفاكهة.

بعد نضج الأيام والسنين الممتدة فهمت حالتي: أنا مصاب بمرض الإجاصة الضائعة ومهما التهمت من هذه النعمة فلن أشبع..إلى أن تعاد لي إجاصة مزرعة الحويطة عل نهر بهت العظيم..والساحر.

فمن يأتيني بتلك الإجاصة…وله ما يطلب شيكا على بياض؟

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد