أحمد الجَــلالي
هذه الأيام كلما فتحت صفحة أو ضغطت على رابط فيديو تنقض علي إعلانات تسألني بإلحالح: واش كتعاني من البرودة؟ وأخرى كتسولني واش كنعاني من ليفاريس؟ ثم يقترحون علي أدوية لها مفعول المعجزة.
ومثل هذه الإعلانات المنتشرة في كل ركن وثنية من ثنايا الشبكة العنكبوتية/ارتيلية لا سبيل للتيقن من صدقيتها أو تمحيص جديتها. وكل ما بوسعك فعله هو أن تنتظر تلك الثواني الثقيلة على القلب حتى تمر كي تواصل مشاهدة ما أنت بصدده.
وكم مرة أجبتهم وكأنهم يسمعونني: ما عندي بو برودة..صافي؟ أو أشنا هيا هاد ليفراريس…وهاد لفرنصاوية بعدا لاش؟ قولوا بوزلوم..ارقيطة..بومزوي..واش كتخاطبوا لمغاربة المرضى المفترضين في البوادي والمداشر بالفرنسية كي تبيعوهم بضاعتكم؟
لقد ابتلينا بآفة الإنترنت ونحن كشعوب متخلفة لسنا مستعدين للتعامل معها فأصبحت إدمانا ومصاريف إضافية بدل أن تكون وسيلة عمل وتواصل منتج أو آلية تعليم وتعلم وتنمية بشرية واقتصادية.
قلما تجد هذه الأيام شخصا منكبا على كتاب أو مجلة أو صحيفة، وحتى من يتميزون عن السرب في القطار أو المقهى ويضعون كتابا بين أيديهم صار ينظر إليهم كمنظر نشاز وسط غابة الهواتف الذكية وغالبية المستهلكين البلداء. لم نخلص للقراءة والكتب فبقينا أميين جهلاء فكيف ستستقيم صلتنا بالإنترنت؟
ويا ليت ما يعرض بمواقعنا سيما المرئية منها كان يحتوي على فائدة معتبرة أو ترفيه راق أو إخبار يستند على الأسلوب المهني العلمي. لا شيء من هذا وكل ما هناك طوفان من القيء والعاهات والسفالة والنذالة مما تعرفون.
لقد أصبح مضمون ما ينشر ويعرض ويبث ويدخل بيوت المغاربة وتشاهده الأسر بأطفالها وناشئتها أمرا خطيرا وجب التصدي له بخيارات باتت تضيق، بل لن أبالغ إن قلت لكم إن المتبقي خياران لا ثالث لهما: صرامة الرقابة على ما ينشر أو المنع. وأقصد بالمنع حجب منصات بعينها، وسيكون ضرر الحجب أقل بكثير من عواقب الاستمرار.
إن من يؤطرون الرأي العام اليوم ويصيغون نفسيات وعقليات مغاربة الغد ليسوا مفكرين ولا أساتذة سياسة واقتصاد وإعلام وعلم النفس بقدر ما هم حثالة المجتمع ومرضاه وحاقدون وعابثوه ومحتالوه ومخنثوه وعاهراته وسافلاته ومنحطاته..ولا جهة رسمية تقول أوقفوا هذا الهراء..ولا أسر تقوم بما يلزم حماية لأطفالها.
التطبيع مع الغث على أشده والسير صار حثيثا نحو المنحدرات التربوية والأخلاقية والثقافية..إن الكائن البشري المغربي يوجد اليوم تحت خطر المسخ والتلاشي..
السوس ينخر الأطفال والمراهقين والألعاب الالكترونية هي البوابة الاستراتيجية لصناعة الشعوب التي يعدونها لمخطط بهائمي يفعلون فيه من خلال ذوقها وخوائها ما يعدون له العدة. فهذا الذي يدمن الـ”فري فاير” هو من يفترض أن يكون الناخب والمصوت والقاضي ورجل الأمن وخبير الاقتصاد والفقيه والمدرس والمؤرخ..كيف سيكون أحد هؤلاء وهو يجد عناء شديدا في سماع سؤالك؟ تسأله ثلاث مرات عن أمر عادي جدا وكأنك تدق ببايه مرارا فلا مجيب…جيل مصمك مسالي وعدو جامع طاوي..كيف سيفهم درس الفلسلفة أو الطب أو الدين مثلا؟
وبعد أن أفرح بانتهاء الإعلان الذي يسألني إن كنت أعاني من “ليفاريس” يقصفني فيديو يتوجه بخطابه إلى “المغاربة الأحراء” ليجبرني على طرح سؤالين بزز مني: واش أنا من مغاربته الأحرار أم خارج النطاق؟ وما ذا يقصد هذا المناضل الافتراضي بالحرية؟
وبينما كانت المعارضة والنضال ملموسة مجسدة في إشخاص معروفي الخطاب حاضري المواقف بلا التباس صرنا مع هؤلاء الأقوام مغاربة أحرار وآخرين “غير أحرار” وصارت نساؤنا منقسمات إلى صفين: حرائر وإماء..افتراضيا.
استغرابي كبير من الدولة المغربية كيف تتفرج على كل هذا بلا أدنى تدخل. كيف تسلم كل هذه المنظومة من السياسة والفكر والإعلام والكتابة والتراث الذي هو محصلة تراكم إسهام إنساني على مدى قرون، كيف تسلمه هكذا إلى عاهات بشرية لتضرب به عرض الحائط وتصبح “ذيول الكلاب النجسة” و بقايا مخاط الأنف المتيبسة هي النماذج وهي الموجه المفتي في كل شيء؟؟
تتعرض منظومة الشبكة المفاهيمية في بلادنا إلى تدمير متعمد رهيب، وهي لا تستهدف من هم بسني أو الثلاثينيين حتى بل تأكل المستقبل عبر قصف عقول صغار السن لتصنع منهم خردة بشرية لطاحونة السوق غدا..وما الغد المغربي ببعيد، ومن عاش سيعرف أن كلامي هذا ليس ترف صاحب عمود أسبوعي أو رغبة منه في التخويف، إنها صرخة وإنذار من خطر يلعب في يومكم ويهدد مستقبلكم. كلمة واحدة.
لدى الدولة القدرة على التصرف والتحكم في كل شيء، وكذب من قال أو سيقول أن الانترنت قدر لا يمكن إلا مسايرته والتكيف معه. كذب وهو يعلم أن الأمر لا يتطلب أكثر من قرار رسمي واع وكبسة زر فيحجب المضمون الشيطاني وكل مزابل الشبكة عن أبنائنا.
إن استمرار المسؤولين في التفرج على هذه المهازل وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء هو إخلال بالواجب وخيانة للمستقبل.ولن نكون نشازا لو قمنا باللازم، فالصين وما أدراك ما هي تفرض رقابة على الإنترنت بل تؤسس لانترنتها قريبا ليكون للكرة الأرضية منصتان هما الشبكة الأمريكية مقابل المنصة الصينية وبدل الإنترنت اي الشبكة المندمجة سيعرف العالم في المستقبل القريب الـ”سبليت نت” أي الشبكة المنفصلة…معناه أن من حق الأمم أن تستقبل بقرارها وتحدد مصيرها لا أن تنقاد كالقطيع.