“آية” والنظارات المنكسرة في قطار مغربي متجه نحو المستقبل

 أحمد الجَــلالي

دع عني كل هذه الفلسفات والنظريات يا صديقي وأخبرني ماهي الحياة والوجود والكون كله، في النهاية، إن لم يكونوا عبورا وسفرا ضمن هذه الأبعاد التي تحكمنا، ومنها الزمان والمكان وباقي عوامل الإفناء الحتمي.

وما دمنا محكومين في الأزل بالفناء دعنا نسافر ضمن سفر سرمدي لابد له في نهاية النهايات من نقطة وصول. الوصول إلى ماذا وعند من؟ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه.

وكواحد من ملايير الكادحين أحب أن أعطي لكدحي التافه في هذا الكون بعضا من الطعم عبر السفر في المكان..بل في الأمكنة المتاحة للجميع وتلك التي لا يعرف أو بالأحرى لا يستطيب مساراتها جميع الناس.

محكومون بالحركة خلال المكان يا رفيقي فهي بنا نسافر عسانا نجد عوضا عمن نود لو نفارقهم لكن صورهم في المهج تأبى أن تفارقنا.

قلت المكان؟ الأمكنة مثل الناس لها طبائع: مغناطيسية تشدك وحديدية تخنقك وأخرى من زنك وقصدير لا قيمة لها مثل التافهين و ما أكثرهم في الشوارع والأزقة وفي كل بقعة يقع عليها بصرك.

والأمكنة، مثل البشر منها المطواع سهل المراس يجعل العلاقة معها انسيابية ومنها العنيد والكتوم ممن لا يبوح لك بنصف سره حتى ولو أفتيت عمرك جارا له أو صديقا مزعوما.

وبعض الأمكنة، مثل طباع الأوادم ، حيادية باردة لا حرارة فيها..آه كم أرفض الحياديين في كل شيء.

ابتليت بالسفر في عشرينياتي ومازلت. رحلة مستمرة وسط الناس ومعهم، وأحيانا ضدهم في مواقف لا تحصى. وفي هذه المسيرة رافقت القطارات وصاحبت محطاتها، ولكم كنت محظوظا بنوعية وعدد التجارب التي أتاحتها لي.

غير أن هذه الثورة التي تعيشها محطات قطارات المغرب لم تكن لصالحي في أغلبها، إذ معها تهدمت صروح ربطتني بها ذكريات وغابت وجوه كنت ألفتها في مقاه ودكاكين وزوايا من مدينة إلى أخرى.

محطة القطار القديمة بالقنيطرة أتلافى النظر إليها بعد أن حولوها إلى طلل وأرغموا الناس على المرور بمصاعد مرهقة لشراء التذاكر ثم ينزلون لاهثين ليستقلوا العربات…ما الحكمة من كل هذا؟ ما الفلسفة من التفنن في جعل العجزة والمرضى يتعذبون من أجل اقتناء تذكرة والمرور بسلاليم كهربائية قد تتعطل في أي وقت فتصبح جبلا صعب الصعود أو يقع بين رحاها سيئو الحظ فتكون الكارثة.

ومن طنجة إلى مراكش مرورا بفاس والرباط شيدوا محطات غاية في الضخامة والبهرجة…لكن بقليل من روح المكان وعبق تاريخه. نعم للنظافة وتحسين الخدمات ولكن ألم يكن ممكنا إحداث كل ذلك والإبقاء على البنيان كما هو مع ترميمه والزيادة حوله قليلا..واستثمار ما صرف من ملايير في تحديث القطارات نفسها أو مد سكك في اتجاهات أخرى يحتاجها المغاربة؟

وإني لأجد حنينا جارفا لبعض ما تبقى من المحطات القديمة ــ والتي أدعو أن تظل كما هي ــ مثل محطة سيدي قاسم والبيضاء المسافرين وأضع اليد على القلب أن أمر يوما فلا أجدها حين تصبح خبرا بعد عين.

ورغم أن سلا من المدن المغربية التي رغم قربي منها فقد أصرت “تاريخيا” أن تبقي على “التيقار” في علاقتها بي. ظلت سلا محايدة فلا هي وفرت لي فرصا ولا تسببت لي في متاعب، لم تصاحبني كما لم تعادني.

غير أن سلا والحق يقال أبقت لي على محطة سلا تبريكت كما هي.مكان يختزل تجربتي مع القطارات المكوكية طالبا وصحافيا في سنواته المهنية الأولى، أيام فورة الحماسة واندفاع الشباب.

قبل أيام فقط أعادني لقاء تأجل قرابة السنة مع صديق عزيز إلى سلا وقد ألححت بنشوة أن يكون في “محطة سلا تبريكت”، وكذلك كان.

انتهى اللقاء مع “طه”، واحد من أطيب الشباب الذين تعرفت عليهم في السنوات الأخيرة، جمع بين الأخلاق والتمكن المهني والانضباط والأمانة ما يجعلك تدعو لكل مغربي أن يرزق بابن يشبهه، وللوطن أن تكون غالبيته العظمى من أمثاله.

دلفت مباشرة إلى مقهى المحطة. كانت شبه فارغة إلا مني وزبون آخر بدا قلقا بعض الشيء. رشفت تلك النص نص الخفيفة (بلا تدخين خلافا للسنين الخوالي) وسرحت ساعة أتأمل في خلق الله.

مضت الساعة وحان موعد قطاري. مررت من السرداب وصعدت. كان رقم عربتي ومقعدي “محايدين” للأسف: 22 و 22..هكذا..رقمان متشابهان في بلاهة عددية وغياب أية تخاطب روحي..في تفاعلي معها طبعا.

وقفت وساءلت “ثورة القطارات” المغربية: كي لي أن أعرف أني أقف في المكان المناسب الذي يفترض أن العربة 22 ــ والحالة هذه ــ ستتوقف فيه؟

وبما أننا في زمان “شيرينيغ” و التقاسم فقد قررت في ما تبقى لموعد القطار من دقائق ألا أبقي السؤال حبيس لساني. على مبعدة بضعة أمتار مني كانت تقف مسافرة شابة فقررت أن أطرح عليها السؤال أعلاه.

شرحت لي بطريقتها وفهمها أن الأمر يتعلق باتجاه القطار ووجود عربة السائق نسبة إلى الذهاب أو الإياب…لم أرد أن أرهقها بمزيد من التوضيح وتظاهرت بأني أخذت الجواب مبديا بعض الامتنان المجامل، كي لا تشعر أن مجهودها في الشرح ذهب سدى.

غير أني انتبهت إلى مفارقة في تلك اللحظة: الشابة مهذبة كثيرا وذات حسن لا يخفى مع أثر ظاهر للنعمة، غير أن على وجهها نظارات طبية مربوطة بقطعة كبيرة من البلاستيك الأبيض الكثيف. كانت في كل لحظة تضبطها كي يبقى البلاستيك مثبتا.

شعرت بحرجها فسألتها عن حال النظارات. أخبرتني أن الإطار انكسر ولا تملك غيرها وأنها ذاهبة إلى مدينتها البعيدة لتحصل على نظارات جديدة طلبتها من مسقط رأسها، وأنها ــ مثلي تماما ــ لا تستطيع الاستغناء عن النظارات ولو لساعة. كان إرهاق قليل باديا على عينيها. وكان رفضي خفيا لوجود نظارات محطمة على وجه فتاة حسناء، لكن لا حيلة عندنا معا.

ذكرتني نظارات “آية” بتلك المنحة الجامعية التي لم أسعد بها ولو نصف يوم لأني كنت مضطرا لتسليمها كاملة لذلك النظاراتي الجشع بالرباط أواسط التسعينات، لكي أضع فوق عيني للمرة الأولى نظارات طبية سترافقني إلى آخر حياتي.

في مثل سن آية الجميلة كنت اصارع في السلك الأول من تعليم جامعي حقير بكلية آداب تافهة لكي “أنجح” وربما أشتغل..وبكثير من الحظ قد أتزوج..وبمعجزة سماوية يصبح لي بيت..ومستقبل.

أما آية وهي في بداية عشرينياتها فهي تشتغل وتعيل نفسها وتحضر الدكتوراه في تخصص محترم. ولأن لسان الصحافي “مريض” بالأسئلة فقد تعارفنا في حوالي ساعة وكسرنا حاجز “تطاحن وصراع الأجيال”.

صديقي طه وآية، التي سأكون عمها باسم عائلي مختلف، هما مغرب اليوم والغد. الأول، كنموذج للشباب المغربي المكافح، يقاتل ليعيش بشرف ونزاهة، والثانية هي الدكتورة والأم وصانعة الأمل في وطن يجب أن يكون حاله خيرا مما عاشه جيلي ومن سبقوه.

سيتحقق هذا حتى ولو كره المجرمون، ولكن بثمن على كل منا أن يشعر بالخزي بينه وبين نفسه إن لم يدفع نصيبه المستحق في سبيل تحقيقه.

بالسفر بدأنا وبه نختم: أشعر بتأنيب الضمير لأن بإمكاني أن أسافر فيما الملايين من بني جلدتي يعد السفر داخل الوطن عندهم ترفا كبيرا لا يجدون إليه سبيلا نظرا لضيق ذات اليد. أحس بالخزي حين أرى في محطات النقل الطرقي مواطنين ناقصي المواطنة تهدر كرامتهم في حافلات وسيارات نقل مزدوج يشحنون فيها كالدواب. أبكي دما عندما أرى في الصباحات الباكرة عربات مليئة بالنساء العاملات الكادحات خلف جرارات تذهب بها إلى ضيعات أصحابها من محميي العصر وورثة التاريخ والجغرافيا.

ومع ذلك ورغم مشاهد القبح سأبقى مصرا على السفر: عند كل كومة قبح أسرح في الخيال نحو مدن فاضلة شيدتها بين ضلوع مئات النصوص الشعرية. وفي كل مشهد ظلم أعجز عن تغييره أستدعي كل الأقمار لتحاكم الشمس الحارقة. وفي كل منحدر للحقارة آمر سحابات شعري لكي تمطر فوق هذا الرجز من عمل شياطين الإنس. وأمام كل عقبة تندحر فيها الحرية أصرخ داخل أودية صدري لأستدعي عفاريت غضب  تحتكم بأمري فتدك أسوارا جبارة .

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد