قصتان بينهما 40عاما: فلاحون خائفون من “قالب ماكينة” وشعب يخشى قالب “تلقيح”

 

أحمد الجـــلالي

 

هل هي حقبة عنوانها الصمت الصارخ و الألم المكتوم هذه التي دخلها المغرب،مع شعوب الأرض،  في فصل الخريف هذا، إيذانا لا قدر الله، بخريف ما تبقى للكائن البشري من حريات أساسية وجد أدنى من كرامة الإنسان وحرمة القوانين الكونية؟

 

إذ  كما يبدو فإنه لو كان إرضاء المغاربة ، ولو من منظور براغماتي يراعي قيمتهم ككتلة انتخابية، يعتبر هما لدى التنظيمات السياسية المشكلة لحكومة المغرب لبدأوا “دخلتهم”  بنوع من التواصل مع الشعب، بعد أن يكونوا شخصوا علميا وعقلانيا الأعطاب المتراكمة في شرايين أسلاك التواصل.

كان يجب، مثلا، إطلاق حوار وطني حول حملة التلقيح التي بدأت جميلة ثم تضببت وعلاها غبار الغموض إلى أن أصبحت “الشوكة” كابوسا للبالغين قبل أن تمر إلى أجساد الأطفال والتلاميذ، أي إلى أبدان أجيال مغرب الغد.

كان يفترض أن تخرج لنا الحكومة من كواليسها “نجوم” ما يسمى اللجنة العلمية ليراهم الناس ويسمعوا منهم عبر ندوات ولقاءات مباشرة من الصحافيين لنعرف منهم عن تطوارت الداء، ونعرف عنهم أي مستوى علمي يتمتعون به ونكتشف كرأي عام مآل الموضوع حتى نتخذ كمواطنين أحرار مخيرين القرار المناسب.

لكن اللجنة، وبعد عامين، ما تزال “حاحبة” وكأن آيت الطالب يخشى عليها من الفيروس نفسه، أو غير مطمئن عليها من شر العين وأذى حاسد وما حسد.

والحقيقة أن أكبر عين يمكن تخيلها هي عين التراجعات التي حلت ببلادنا، بحيث كلما اقترب نضج شيء وهممنا بالفرح والتهليل إلا وخرج لنا من حيت لا ندري ما لا يحصى من المصائب التي أفقدت شعبا بأكمله القدرة على التركيز وتشتت انتباهه وهو يتابع مقاطع فيلم عبثي لا ينتهي.

 أصبحت ذاكرة المغاربة تتعرض لقصف  رهيب  لا يكاد  يترك لنا مجالا للتنفس وربط النقاط ببعضها لتكوين انطباع أو رأي ومن ثمة اتخاذ القرار الصحيح. إن حال الغالبية الساحقة المسحوقة من شعبنا صارت المعنية بما نظمه الناظم وغناه المغني: “والمسكين الهيمان فشقا ولمحان..يتمنى الموت عيان ما وجدها فحييين”.

وقد حُق لنا فعلا أن نصف حالنا بـ:”غادي ونعتر فكيادي.. نبكي من قلة زادي.. مصيوك بلا كوادي…فظلام يامي غادي”. كيف لا وقد يوشك مجرد خبز حاف أن يصبح كل المنى ،أما العلاج فمعجزة، فيما الحصول على الحق عبر التقاضي وعلى وظيفة بلا وساطة محض إشاعات مغرضة.

كما الأفراد تماما يجب على الشعب ــ أي شعب كان ــ أن يتوقف في منعطفات بعينها ليأخذ نفسه ويطرح السؤال الضروري: إلى أين نجن ذاهبون، وفي الحالة المغربية هنا والآن: ما الذي أصابنا..واش حنا هوما حنا؟

سؤالان ملحاحان يبحثان عن إجابات شافية تعقبها خطوات عملية لإعادة ترتيب أوضاعنا، وإلا دونهما الضياع الثقافي ..ثم التيه القيمي.

أجد في القصص دائما رسائل ملهمة أو تقاطعات تنير مسير الخطوات، فضلا عن المتعة الروحية والذهنية. وأذكر هنا لكم بإيجاز قصة من عمل أدبي اشتغل عليه منذ سنوات:

“من عادة أصحاب “ماكينات” الحصاد بداية كل موسم أن يطوفوا على الدواوير المتباعدة نسبيا. سعر حصاد الفذان معروف سلفا، لكن المشكلة في حرارة السباق بين مالكي “الماكينات” ومن منهم يفوز بالعدد الأكبر من الفلاحين، والتسابق المحموم بين المزارعين أنفسهم إذ كل واحد منهم يريد أن يحصد ويذهب بمحصوله إلى بيدره خوفا من هجوم قطعان المواشي عليه.

وبكل مكر يلجأ أصحاب الماكينات إلى التظاهر بالعمل فيحصد لهذا بضعة أمتار ولذاك مساحة صغيرة ثم يذهب لجوار آخر ويصنع الشيء نفسه، وهكذا يصبح الجميع رهائن لديهم، وبالتالي يستفيدون من حصد أكبر مساحة مزروعة.

وفي يوم مشهود حصد سائق الماكينة ناصية الفذان وأراد أن ينصرف متظاهرا بأمر طارئ سيعود بعده بسرعة، لكن الاحتجاج تصاعد من جماعة مزارعين حتى صار كتلة لا تميز فيها كلمة ولا فكرة.

هنا، ارتفع صوت ” محمد الحسناوي” فوق الجميع يطلب منهم بصوت مرتفع كل على حدة:  اسكت…اسكت..اسكتااه…واستكتاه..بدل جهدا كبيرا إلى أن انطم الجميع. أخذ نفسها عميقا وصاحب آلة الحصاد الصفراء ينظر وينتظر كلمة الحسناوي.

ران صمت ثقيل فنطق الحسناوي أخيرا وقال باسم الجميع: الجماعة خايفين من قالب”.

حوصر السائق. لم يكن من بد أمام جماعة فلاحين نطق كبيرهم باسمهم وعبر عن عدم الثقة خوفا من “قالب”…لم يكن من خيار للسائق غير الإذعان.”

قصة عشتها وعمري عشر سنوات، ومازالت ماثلة أمامي بألوانها وأصواتها ورائحة السنابل وعرف الناس، وبعد عقود أعيش اليوم مع ملايين المغاربة قصة تشبهها مع فارق في الشخوص والوقائع لكن المغزى هوهو نفسه: الجماعة/الشعب…ملو الماكينة/الحكومة…الخوف من قالب/التلقيح وخطره.

www.achawari.com

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد