مارادونا “مرضنا الجميل”..سلام لـ”بنعيسى” “تشي غي” نجم المغرب المنسي

أحمد الجلالي

   إنه عام الموت والحزن وسرعة الرحيل. في كل يوم يرحل الناس لكي لا يعودوا إلى دنيا الناس أبدا. هكذا سوف تتذكر الأجيال العام الجاري مثلما تذكر أجدادنا سنوات التيه والأوبئة والاستعمار ومجازره.

يرحل البسطاء في صمت ولا يرحل المشاهير في هدوء. وحتى إن رغبوا فيه في نهاية حياتهم فالجماهير لا تتركهم يودعون كما يشاؤون.

بالأمس غادر دنيانا علمان بارزان. كلاهما فنان في مجاله: محمود الإدريسي صاحب “واش نزيدو مزال الحال؟” والنجم مارادونا الذي شغل الناس منذ طفولته وأحزن العالم برحيله المفاجئ وهو مازال أبعد ما يكون عن سن الشيخوخة.

لكل واحد منا ذكرى معينة أحزينة كانت أم سعيدة مع النجوم. ولي مع الراحلين معا ذكريات لن تنسى.

أبدأ بالمرحوم الإدريسي الذي حفظت أغانيه العذبة عن ظهر قلب عبر جهاز “ترانزيستور” وأنا طفل ثم مراهق. وجدت في ألحانه وبحة صوته وجمال كلماته ما شدني.

في بدايات التحاقي بشغف بمهنة الصحافة ورغم ولعي بالعمل الميداني فقد وجدت بي ما يسعفني لكي أولي الفن حيزا من اهتمامي. ومن ذلك كان ملف عن الأغنية المغربية استعملته حيلة مقنعة كي التقي بنجوم المغرب الفني.

حاورت كثيرين وكان أبرزهم محمود الإدريسي. ولن أنس يوم لقائنا في مركز ألفين قبالة المحطة القديمة  الدار البيضاء المدينة، ولم أنس قوله لي إن الفن ثروة أغلى من النفط علينا الاهتمام بها.

رحم الله الإدريسي وسقى روحه الميالة للتواضع والبساطة..

أعود إلى مارادونا. أوائل ثمانيات القرن المنصرم ضج المكان والزمن باسمه وانتشرت صوره ووصلت حتى أحزمة ذكورية كانت تباع في الأسواق القروية. اشتريت واحدة من أجل أن تلفني “سمطة” بها صورة لشاب ذي شعر أسود كثيف.

في المونديال الشهير بمونديال مارادونا جاء وقت التعرف الحقيقي على شخص غير عادي بالمرة. كان فتى خارقا يقدر على قلب الوضع والنتيجة رأسا على عقب.

فتنا بمراوغاته وقدرته البدنية. ورغم قصر قامته كان يبدو عملاقا أمام من أوتوا بسطات خارقة في الأجساد. كنا نشجع الأرجنتين لأن بها مارادونا ونريده أن يرفع الكأس..وقد كان له ولنا ما أردنا مرارا.

مارادونا لاعب وطنه الكرة أينما وجدت. خلق ليراقص المستديرة. سواء في “بوكا جينيور” أو نابولي أو بالمكسيك..أينما كان “دييغو” تتبعه المتعة الجنونية.

مرت السنوات، ومع الوعي المرتبط بالاطلاع والتقدم في السن تغيرت نظرتي لهذا اللاعب الأسطوري بكل المقاييس.

وجدت أن مارادونا لا يلعب فقط…بل يقاتل من أجل قضية جدية حتى لو كانت الوسيلة تسمى “لعبة”.

اكتشفت أن للرجل معدنا خاصا فهو لم تغيره الأموال ولا نسي منبته حيث الفقراء وعامة الناس…والحس الأسري.

عرفت أن ابن الأرجنتين الكبير ليس عاديا وأن له مواقف لا تصدر إلا عن كبار النفوس والأرواح المميزة في هذا الكون الفسيح أكثر مما تدرك عقولنا:

لقد عرضت عليه مائة مليون دولار وجنسية أمريكية من قبل كبار المسؤولين في بلاد الم سام ومنهم الداهية “كيسنجر”، ولكن “دييغو” رفض..رفض ببساطة لأنه يكره كل ما يأتي من أمريكا ولأنه أرجنتيني وهو انتماء بالنسبة له أكبر من أموال الدنيا.

ولن يكون الموقف مستغربا إن عرفنا أن ابن بلده الزعيم الثائر “تشي غيفارا” هو قدوته مثلما فيديل كاسترو هو معلمه. الحال من بعضه.

ولم يبد مارادونا يوما مترددا أو جبانا في مواقفه التي آمن بها، بل كان من طبيعته أن يواجه سواء في الملعب أو أمام الصحافة أو وجها لوجه مع الجمهور. وللمهتمين بتاريخه أن يبحثوا ماذا صنع مع جمهور حامي وخطير مثل جماهير “نابولي” وأن ينقبوا عن قصص مواجهاته مع مسؤولي الفرق التي لعب لها مثل برشلونة.

ولن ينسى العرب والمسلمون للراحل مواقفه الداعمة للقضية والحق الفلسطينيين دون تردد أو وجل من لوبيات بني صهيون في كل مكان. هو الذي صرح للرئيس محمود عباس أمام الكاميرات: قلبي فلسطيني.

ويستحيل أن ينسى المغاربة لمارادونا حضوره إلى الصحراء المغربية وارتداءه القميص الوطني ورقصته التي أبانت كيف أنهومجذوب حقيقي يحمل رقم عشرة  أيضا في ملعب “الحال”.

رحم الله “دييغو أرماندو مارادونا”..رحمه رب الكون الذي وسعت رحمته كل شيء.

لم التق مارادونا لكني صادقت ولعبت مع “مارادونا المغربي” الذي لم يسمع به أحد. وقد جاءت فرصة تعريف قرائي به:

اسمه بنعيسى، من قرية أولاد جلال، قبيلة مختار، دائرة بلقصيري، صورة طبق الأصل لـ”دييغو” لا من حيث أسلوب اللعب، وبالرجل اليسرى، ولا في ما يخص القامة والشخصية والشغف الجنوني بالكرة.

كنا نعرفه باسم بنعيسى لكن فجأة لقب ب”الدغوغي” وهو لقب غريب سرعان ما نسي تماما لتلتصق به كنية جديدة إلى الأبد: الـ”تشي غي” وبمها عرف ولعب وما يزال منذ بداية الثمانينات.

طيلة ثلاثة عقود كان اسم التشيغي يعني الكرة، بل والإبداع في المراوغات واللياقة البدنية. وإذا سمعت شخصا ينطق “الكوغة” بدل ” الكورة” فاعلم أنه الكابتن بنعيسى.

لم يغب بنعيسى عن أي دوري محلي ولا توقف عن اللعب يوما منذ أن عرفناه. ورغم العمل الفلاحي الشاق والاشتغال مياوما لكي يعين نفسه ويعيل أبويه كان يوفر المال ليشتري أحسن الأحذية والأقمصة الرياضية ويجد الوقت ليلعب في قريته ومع أقرانه بالقرى المجاورة.

“التشي غي” آلة كروية لم تتوقف. طاقة ظلت تهدر في غفلة من أشهر نوادي المغرب. أقولها بثقة وصراحة: لم تنجب مثله لا الرجاء ولا الوداد ولا الجيش الملكي ولا النادي القنيطري. وهم حكم أتحمل فيه مسؤوليتي ولي شهود إثبات مازالو في دنيانا أحياء يرزقون.

ورغم أني أصغره سنا فقد التحقت به لنلعب في فريق واحد، مثلما التحق به كثيرون قبلي وبعدي ليشاركوه الشغف، لكنهم تعبوا وانسحبوا..لكن التشيغي بقي عصيا عن التوقف والملل.

وكشاهد لعب سنوات مع بنعيسى أقول بحسرة: تبا لجحيم النسيان والتهميش وقبحا لمن نسوا باديتنا وأهلها من إملشيل إلى سهول الغرب.

كان “التشيغي” يفعل بالكرة ما يشاء وهي تطاوعه سواء في الأرض أو بالهواء. تحكم لا يصدق في الكرة ومراوغات “شيطانية” مع سرعة خرافية وتمريرات محسوبة بالمليميتر.

لم يتخرج الرجل من ناد ولا تلقى تعليما رياضيا. هو عصامي بكل المقاييس، علم نفسه مواهب الكرة في مساحة ضيقة على حافة وادي سبو. وتمرس لاعبا مقاتلا قرب ملعب أوسع قرب مقبرة سيدي الكامل. هذا كل ما وجد لاعبنا.. وقد صنع نفسه ولم يجد عشر فرصة ليفيد ويستفيد.

ومثلما “تشي غيفارا” الكرة الأرجنتينية شعبي مبتسم دوما فكذلك “تشيغينا” دائم الابتسامة مقبل على الحياة مهذب يستحيل أن تسمع منه كلة بذيئة حتى في عز نزقنا أيام المراهقة. ابن با الهاشمي و”الوشيوشية” خلوق واجتماعي لا يفوت مناسبة فرح ليشارك الأهالي ولا يتغيب عن قرح ليقدم العزاء والمواساة.

عندما فقدت والدتي رحمه الله قبل سنتين كان بنعيسى التشيغي في مقدمة المعزين وقد أسعدني لقاؤه بعد سنين طويلة لم أره. كان كما هو تقريبا. انحبست الكلمات في لساني في تلك اللحظات.

سأله ابن أخي رشيد: بنعيسى واش عمي أحمد كان لاعب بصح في ايامكم؟

أجابه “التشي غي”: هو لي كان أصاحبي…قالها تواضعا منه ومجاملة لي.

أخي بنعيسى الرائع:  سقى الله تلك الأيام وأطال عمرك..نعم أزعم أني كنت لاعبا مميزا لكن الحق يقال أنت من كنت الرمز والعميد وكنت تستحق أن تحمل رقم عشرة ،الذي لازمك سنوات،ليس بجانبي أنا وإنما بجانب ظلمي والتيمومي ..وباقي الكبار.

www.achawari.com

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد