أن تشتغل في مهنة التربية والتعليم بالمغرب كما ينبغي وبكل تفان طيلة مسيرتك الطويلة فالأمر يتطلب استعدادا عقليا وصحيا وأخلاقيا غير طبيعي بالنظر لمشاق المهنة بحد ذاتها.
أن تكون أستاذا لمادة علمية بالسلك الثانوي من الثلث الأخير للقرن الماضي وتتقاعد في أواسط العشرية الثالثة من هذا القرن فأنت ورب الكعبة أسطورة بكل مقاييس الطاقة البشرية لهذا العصر.
لكن أن تمضي أربعين سنة بالتمام والكمال أستاذا فذا لمادة العلوم الطبيعية، من ثمانينيات القرن المنصرم إلى يومنا هذا في شهرنا هذا وتأتي في آخر المطاف لتعتذر لأجيال درستها عن أي تقصير فهنا يجب أن يكون اسمك مكتوبا بحروف من ذهب: محمد أجليان.
جاء أجيليان شابا في مقتبل العمر إلى مدينة مشرع بلقصيري، ليشتغل أستاذا بثانويتها الوحيدة حينها، ثانوية الأمير مولاي رشيد، أستاذا غير طبيعي لمادة العلوم الطبيعية.
“غير طبيعي” بمعناها الإيجابي المشرق: تفان قتالي في الشرح والتقريب، إخلاص صوفي للعمل بتوقيته المضبوط، التحضير القبلي والضافي لكل درس، الجدية وعدم تضييع ولو دقيقة من كل حصة.
هذا كان أجيليان طيلة عشرين عاما. التصق اسمه بالجناح العلمي، والذي على تواضعه كان هذا الأستاذ المربي رفقة رفاق آخرين طيبي الذكر، كان يكسبه الهيبة الوقار اللازمين لحضرة المكان وقدسية الرسالة العلمية والتثقيفية والتربوية.
وسواء كنت علمي التوجه أو أدبي الهوى، فمع دروس أجيليان في “الطبيعيات” لا خيار لك سوى أن تفهم فتنجح أو تفهم فتنجح بتفوق.
وبعد عقدين وعامين من العمل المضني ببلقصيري مع ما يتطلبه أداء الأمانة من تضحيات وإصرار وجلد، انتقل السي أجيليان إلى مدينة الشاون وبها أمضى 18 سنة من العمل إلى أن وصلت الساعة التي لا مفر منها: التقاعد الوظيفي.
وكأي مؤمن برسالته، ابن ناس، مغربي أصيل، ذكي ومتواضع ختمها بتدوينة كتب فيها: “شكرا لكل الاخوة والاخوات والزملاء والزميلات والتلاميذ والتلميذات والضيوف الكرام.
إلى هنا تنتهي مسيرتي المهنية التي دامت 40 سنة قضيت منها 22 سنة بثانوية مولاي رشيد ببلقصيري، و 18 بثانوية الامام الشاذلي بشفشاون.
أتمنى أن أكون قد أديت واجبي بأمانة، و أعتذر للمتعلمات والمتعلمين إن صدر مني تقصير أو خطأ”.
إن مثل هذا الكلام في نهاية أربعة عقود من العمل المخلص لا يصدر سوى عن أصحاب النفوس الكبيرة. وقد كنت وستبقى كبيرا سي أجيليان في ذاكرة وقلوب كل من كانوا محظوظين بأن جعلتك الأقدار في طريقهم.
نشهد الله أنك كفيت ووفيت وما قصرت أبدا. تقبل الله منك صادق العمل التعليمي والتربوي وجازاك عن بناتك وأبنائك من أجيال هذا الوطن كل الخير وجميل الجزاء في دنياك وأخراك.
كلمة أخيرة: في مجالات محددة ليس هناك تقاعد: فالأستاذ والكاتب والقاضي والخبير في مجالات العلم لا يتقاعدون. ولو كان النظام التربوي بالمغرب يعتمد المعايير الصحيحة، فمكان سي أجيليان ليس التقاعد الوظيفي بل مجلس خبراء في التكوين كل حسب تخصصه.
هؤلاء هم زبدة عقول مغرب يحتاجهم أكثر في سن نضجهم.