أحمد الجَــلالي
في زمن “طوفان الأقصى” هذا صار خير ما يمكن أن يصدر عن أي مواطن مغربي صادق مع نفسه محب لوطنه وغير حاقد على دولته اليوم هو أن يقول لهم جميعا، في السر والعلن: “الله يحسن لعوان” ثم يعمل بجد ويذكر ربه في نفسه إن انساه الشيطان.
والقول للدولة والسلطات “أحسن الله عونكم” ليس مدخلا لتبرير كل ما يصدر عن السلطات من تقصير هنا وعدم كفاءة هناك. لا، بل هو محاولة جادة وصادقة لفهم الظروف الموضوعية والإكراهات التي تعيشها الدولة المغربية هذه الأيام.
لم يلملم المغرب جراحه كلها بعد زلزال الحوز حيث مواطنون مغاربة كثر يوجدون اليوم في خيام عرضة للبرد والأمراض، في حين ماتزال المشاريع التي سطرت لإعادة إرجاعهم لبعض الحياة الطبيعية تراوح الخطو بين الورق والعقلية البيروقراطية المقيتة و إكراهات التمويل وتسريع إعانة الناس بشكل مادي ملموس ومحسوس.
وقبل الزلزال، قاسى المغاربة ويقاسون يوميا نتائج حرب إبادة القدرة الشرائية التي تشنها حكومة أخنوش على ما تبقى في جيوب الفقراء من دراهم بيسراها، بينما يمناها تمتد لنسيج الطبقة المتوسطة لتدميره كي يصبح بالمغرب طبقان فقط لا غير: شبعان جدا مقابل مزلوط جدا جدا.
وقبل هذا وذاك، الآن قد وصلت سموم ما عاشه المغاربة من ركود اقتصادي أيام “الكوفيد” اللعين حيث لم تعبث بصحة المغاربة البدنية والذهنية “الجلبة الإجبارية” بل آثار التجربة علينا جميعا نفسيا واقتصاديا ومزاجيا. تطلعوا في وجوه ملايين مرتادي المقاهي صباح مساء وأجيبوني: أين اختفت الابتسامات والقهقهات؟
وفي غمرة هذا التشابك القاتل للمآسي والأزمات، في ظل سنوات جفاف وعطش، جاء طوفان من الشرق لم يكن يتوقعه أحد في العالم، فما بالك بالمغرب المنكفئ على معالجة أزماته الداخلية.
وكان بإمكان المغرب الرسمي أن يساير هذه الحرب “البعيدة” جغرافيا كما ساير سابقاتها بمواقف معتدلة وبلاغات مدروسة أو وساطات عرف بها تاريخيا، غير أن الزمن تغير كثيرا ولم يعد بإمكان بلادنا الاطمئنان للمقاربات القديمة.
بعد طوفان الأقصى، لماذا “الله يحسن لعوان” مرة أخرى؟
تجد السلطات المغربية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة مضطرة للسير على خيط رفيع يضمن توازنا حساسا بين الغضب الشعبي العارم مما يحصل من مجازر صهيونية أودت بحياة آلاف من الأشقاء بفلسطين المحتلة، ومغامرة التطبيع السارية قانونيا وواقعيا مع دولة الاحتلال. فلا الدولة قادرة على قمع الجماهير كما حصل من نشطاء يعدون على رؤوس الأصابع قبالة البرلمان قبل أسابيع من طوفان الأقصى، ولا هي تستطيع طي صفحة التطبيع، وهو المطلب الذي لم يعد خافيا أن الأغلبية الساحقة جدا من المغاربة يدعون لإقباره اليوم قبل الغد.
مما لا شك فيه أن الرسالة الشعبية قد وصلت فصيحة صريحة لمن بيدهم العقد والحل، وبلا ريب أن عقلاء البلاد لن يسقطوا هذا المعطى الحاسم في صناعة قرار بإمكان الرباط أن تقدم عليه، قياسا على إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي في تجربة سابقة.
ولقد فعلت الدولة خيرا في البلاد وفي نفسها حينما تريثت في تحويل “المكتب” إلى “سفارة” وأعطت “النخال” لأبي الفضائح المتحرش المدعو غوفرين الذي نصب نفسه سفيرا افتراضيا و “تزريط” في تصريحاته وتحركاته..عسى ولعل.
ومن حسنات طوفان الأقصى المبارك أنه كشف حقائق في وقتها، ومن ذلك أن بعض وجوه النخبة ،يا حسرة على التنخيب، اختارت الوقت الغلط وأطلقت التصريحات الخطأ وتحدثت باسم المغاربة ونابت عنهم في تصنيفهم (بلا خبارهم) إسرائيليين.
ومن حسنات هذا الطوفان المبارك أنه فضح من يزعمون الوطنية وأنهم ملكيون أكثر من غيرهم حينما صرحوا في لحظة حقيقة وهذيان وحرضوا المغاربة على أن يذهبوا مباشرة إلى “العوينة”.
وصغار النفوس هؤلاء ليسوا مع أحد. هم مع مصالحهم المادية الضيقة جدا ومستعدون للقفز من السفينة في أول مراحل أي خطر، بينما لـ”العوينة” رب يحميها وتاريخ يسندها وشعب يضعها تحت رموش أعينه إذا جد الجد وأزفت أية آزفة لا شاء الله ولا قدر.
ويبدو لكل متتبع عن كثب للشأن السياسي المغربي، في بعده الخارجي، أننا بفعل الأحداث الجارية وما تكشفت عنه، قد انتقلنا من مرحلة “في ماذا سينفعنا التطبيع؟” إلى السؤال الحارق: ماذا سنخسر عبر استمرار هذا التطبيع؟
قد يقول قائل إن تقدير الأرباح والخسائر يحتاج إلى وقت طويل. وهذه أطروحة بئيسة تتعامى عن الحقائق الماثلة على الأرض والمنقولة على الهواء مباشرة عبر شاشات التلفزيون وقنوات الانترنت.طوفان الأقصى قلب المعادلات كلها.
وقبل تحليل لماذا يجب أن يقبر هذا التطبيع، دعونا نعترف بأن طوفان الأقصى قدم خدمة جليلة لكل من يريد فك الارتباط بالكيان الغاصب. فاليوم بيد كل من سار في ركاب التطبيع وبينهم المغرب ــ سواء عن طيب خاطر أو مضطرا ــ فرصة عظيمة للتخلص من الحرج: فالشارع يغلي وجرائم الاحتلال تعزله عن ساحة الإنسانية، وعرض “حل الدولتين” لم يعد من يستطيع الحديث عنه جراء الهمجية الصهيونية، وبالتالي من السهل على الرباط التنصل من كل الالتزامات السابقة إزاء الكيان.
أما لماذا يجب دفن قصة التطبيع بعد تمزيق أوراقها فلأن المبررات التي استند عليها وجعل المغاربة يصمتون عليها احتراما لشخص الملك وتقديرا للدولة التي لابد أن لها ما لا يمكن التصريح به لكنه في النهاية يخدم المصالح العليا للبلاد،هذه المبررات قد سقطت اليوم سقوطا مدويا، ومنها:
ــ الكيان سيدعمنا سياسيا: الكيان بلوبياته ــ ومنها اليهود المغاربة ــ لم يدعمنا بشيء وكل ما حصل تغريدة من ترامب قبيل مغادرته السلطة…انتهت إلى إصرار النتنياهو على عرض خريطة بلادنا مشطورة عن صحرائها. ألا يكفي هذا؟
ــ الكيان سيدعمنا عسكريا: الكيان عاجز عن حماية مؤخرتة من أولاد غزة الأبطال، فأي دولة هذه التي يمكن أن نعول على دعمها لنا وهي التي ترابط بمئات الدبابات عاجزة أمام قطاع غزة منذ ثلاثة أسابيع، فضلا عن فضائحها العسكرية والاستخباراتية منذ فجر الـ 7 من أكتوبر وإلى حدود الساعة؟ يجب أن ننظر للحقيقة كما هي.
ــ الكيان سيحمي ظهرنا من الجزائر: لا نحتاج أي كيان ليحمينا، وصحراؤنا بين أيدينا، وكل متر منها تحت بنادق جيشنا، وليست الجزائر بعبعا يخيفنا..ويلا كذبت تجرب، وهي لن تجرب لأنها تعرفنا جيدا ولا تستطيع أن تجرب حظها ثانية فلا قدراتها تسمح ولا كبار العالم سيسمحون لها. اطمئنوا تماما.
ــ الكيان سيدعمنا اقتصاديا: الكيان لا يفيد بل يستفيد، وهو يأخذ ولا يعطي، وهو يبتز ولا يقدم هدايا، وإن قدم هدايا فهي تكون مسمومة. ثم إن من يقول بمزايا الكيان أن يخبرنا عن حال نتائج تطبيع مصر والأردن معه..وسلموا لي على “كامبو ديفيد” و”وادي العربة المقلوبة“.
ليلة التوقيع على التطبيع مع الكيان كانت لحظة موجعة وقد قاومت فيها عواطفي وكتبت بـ “تعقل” غير معهود في رأيي بوضوح والتمست فيه بعض الأعذار للدولة وأبقيت إمكانية “إغلاق المكتب” في وضع “ستاند باي”، واليوم أدعو الدولة للإصغاء لصوتين:
ــ صوت الضمير الوطني المغربي الذي يقوم النظام والمشروعية التاريخية على التناغم معه وعليه وضعت الأمة مداميك الاستقرار، أحد أقوى رساميل بلادنا في عالم مجنون متقلب.
ــ صوت الحكمة الذي يقول إن استجابة الحكام لشعوبهم ليست هزيمة ولا خضوعا بل هي شرف يعرف الشرفاء الحقيقيون معناه ومغزاه ويضعونه تيجان فخر على رؤوسهم.
والخلاصة أن المغرب كما العالم كله، بعد طوفان الأقصى،سيسير اليوم على حد الشفرة، فكل حركة غير مدروسة تؤدي إلى جراح جديدة أو تعمق الأخرى التي لم تلتئم بعد. نحن في زمن لابد أن يستدعى فيه الحكماء والعقلاء والخبراء للمكانة التي يستحقونها، مع إحكام إغلاق كل الأبواب في وجه السماسرة والانتهازيين والانتفاعيين والمنافقين.
فهذه الزمرة وطنها هو جيبها، وولاؤها لمن يكرم بطونها، وصفها دائما مع الجانب الغالب. أبعدوا الذباب عن موائد الوطن فهو عفن ناقل لكل ألوان الأمراض القاتلة من مزابل النظام العالمي المترهل المترنح قبل سقوط مدوي مرتقب.و طوفان الأقصى مقدمة فعلية لهذا السقوط الرهيب بلا شك.
طوفان الأقصى هذا أسقط اسطورة الكيان القادر عسكريا واستخباراتيا على كل شيئ وسوف يسقط كل الأقنعة تباعا.