أحمد الجَــلالي
من يراقب بلادنا من خارج الحدود لاشك سيرى الصورة العامة بشكل أوضح. رؤية الغابة من فوق مروحية ليست كرؤيتها من بين سيقان وجدوع الشجر.
سيرى المتأمل كثرة الشكوى والتأفف والسخط والاحتجاج. زخم من عدم الرضا يطل من كل ثقب. مواقع التناحر الاجتماعي تفيض بالاحتجاج أقوى تيارا من قنوات الصرف غير الصحي بطنجة والبيضاء وتطوان.
المتعاقدون غير راضين وهم يحتجون….واللوم على المخزن.
عمال الشركات وملاكها يبكون الكساد والبطالة..واللوم على سياسة المخزن.
أصحاب القطاع غير المهيكل والباعة الجائلون يستكون للسماء التضييق..والغلط؟ إنه غلط المخزن.
الموظفون جميها يعضون على الشفاه من فرط الاقتطاعات..واللائمة كل اللائمة على هذا المحزن.
أطر القطاع الصحي من أطباء وممرضين يشتكون وقد بحت حناجرهم صراخا ضد الحيف في وجه سياسة المخزن.
المستهلكون يبكون كثرة الزيادات في أسعار المواد الأساسية ويرجعون السبب إلى قرارات المخزن.
كل بيت لابد نالته عضة أليمة من شركتي الماء والكهرباء..والعيب في المخزن الذي أطلق أيدي هؤلاء في جيوب الناس..نعم المخزن.
لائحة الاتهامات المصوبة نحو طرابيش المخزن لا حصر لها.
لكن، وما أصعب لكن هذه دائما وما أحوجنا إليها لكي نستفيق ونراجع “كناشنا” جيدا…لكن هناك سؤالين لا غنى عنهما بشأن هذا الكائن المسمى “مخزن” :
السؤال الأول: ما هو المخزن والسؤال الثاني : هل يكره المغاربة حقا هذا المخزن؟
سنجيب عن السؤالين بشكل مندمج، حتى ننوب عن الحكومة في تفعيل مقاربتها التشاركية المندمجة، والتي ترفض أن ترى النور وتفضل أن تبقى غريقة في في ظلام الغموض والنسيان.
من قرأ كتاب “كنت إسلاميا” لابد أن يأخذه الإعجاب بخيال ومجهود الكاتب عمر العمري في مقاربة تيمة المخزن واستخدامها بشكل ساحر ومبدع في متن الرواية السير ذاتية.
أنا مثله، ابن بادية الغرب، تعايشت مع هذا المخلوق الذي كان بقدر ما يخيفني حين اخلط بينه وبين كائنات أحجيات الغول والذيب وهينة وبلحورتي وكوابيس بوغطاط…كان يشوش على منظومتي اللسانية الناشئة.
كنت اخاف من توجيه سؤالي للكبار: شنو هو المخزن؟ كنت أرقبهم يتحدثون عنه بجدية ورهبة كبيرتين، مع ما يعلو الوجوه ساعتها من تجهم واكفهرار.
لكني جمعت صورة للمخزن رغم طفولتي المبكرة واختصرته في القايد العلواني صاحب الجبروت وسيارة “جيب” لاجودان رشيد المتسلط والذي يتحدث الناس عن كيه للبعض بـ”تريسينتي”..وقد زادت “تريسينتي” هذه من استغرابي ومقاومتي لكل ما هو مجرد، فلم أكن أعرف غير الشمع و”لامبة الغاز” ذات الفتيلة، فعلى ضوئها أنجزت مئات التمارين وقرأت كل مقرراتي وراجعت كل دروس الابتدائي..وقد يكون لها الفضل في اجباري على ارتداء النظارات الطبية مبكرا.
كما أسعف فهمي الأولي للمخزن شخص وسيارة الشيخ وطول قامة وجلباب لمقدم..ولن أنسى مساهمة البراح الذي يعلم أهل الجماعة بضرورة الحراسة ليلا لمداخل الدوار..إنها مهمة “العسة” الدورية.
وعندما فعلت في السكويلة أفعالها تغير فهمي للمخزن وتطورت مقاربتي له عبر البحث عنه في الشعب المغربي نفسه..
مرة أخرى: هل المخزن موجود؟ وما هو؟ وهل يكرهه المغاربة؟
الشعب الذي يشكو جور المحزن هو نفسه الذي يؤمن حتى العظم أن “لي بغاها المخزن هي لي تكون” ويدعو ربه حد الخشوع بأن “لهلا يخطينا مخزن”..
الشعب الذي يقول إن المخزن يظلمه هو عينه الذي يشكو غاضبا غياب المخزن ويطالب المخزن بالحضور الدائم كي يعم الأمن..
الشعب ذاته الذي ينتقد المخزن وقد يزدري المنتسبين للمخزن أو المتعاونين معه هو بعين ذاته من يفضل أن يزوج بناته لمغربي يكون “خدام مع المخزن وبلاصتو مضمونة” على تاجر قد يربح شهريا أضعاف أجرة قائد أو مدرس أو قاض حتى..
الشعب الذي يريد موت المخزن هو الذي يلف بطريقته ثم يسألك هل تعرف واسطة كي اشغل ابني مع المخزن، أي في سلك الشرطة أو الدرك أو الجيش، ويضيف لك هامسا: لفلوس مكين مشكل..
التنظيمات المجتمعية سواء السياسية أو النقابية أو ما يسمى المجتمع المدني، وضمنها من بنوا مشروعيتهم على مقاومة المخزن ومشاريعه..هؤلاء يفعلون كل شيء كي يرضى عنهم المخزن ويزكيهم، ويوم السعد عندهم هو حين تشرق شموس السعد والحظ عليهم فيتلقون اتصالا أو يطلبون للقيام بمهمة…
من يسمون أنفسهم مناضلين ويتغنون أمام الشعب بمكافحتهم للمخزن لا يترردون أبدا في الجلوس إلى موائد المخزن الدسمة لكي يتلذذوا ما شاء لهم أولياء النعمة هنيئا مريئا..وإن رأيتهم صمتوا فليس سوى لأن أفواههم منشغلة بالالتهام وأضراسهم منهمكة في المضغ..وإن عادوا للصراخ فاعلموا أن “المونة سالات” أو تكاد..
إن المخزن، والأحوال هذه، يوجد ولا يوجد. إنه من صنعنا ومنا وفينا…ما المخزن إذا إن لم يكن يسري في دمائنا ثقافة متغلغلة؟
إن المخزن، والأحوال هذه، ليس كائنا هلاميا ولا مؤسسات قائمة من أشخاص في أماكن صنعت من حجر وحديد..بل إنه شعب يصنع بقناعة أو تعود أو عن طبيعة بشرية، نمطا للإدارة والتعامل والحكم ويرتضيها بل يقاوم ويقاتل من أجل بقائها.
سيقول بعضكم إن المخزن هو النظام السياسي القائم، وهذا صحيح وغير صحيح، فبنية المخزن ممتدة،وفي مفهومها الشامل والواقعي التاريخي، قد تتجاوز الملك نفسه كرئيس دولة وكمواطن، إلى تقاطعات زمنية وعلائقية أكبر مساحة، وأقدم من النظام الملكي نفسه بقرون عديدة.
إنها الشبكة الجبارة التي ليست لها حاضنة أكبر ولا مرضعة أحن من الشعب المغربي نفسه. إنها الجينات التي ورثناها أبا عن جد وجدا عن سلالة…هكذا يبدو لي الأمر.
في ما روي عن الراحل الحسن الثاني أنه تحدث إلى جار له بأحد القصور منبها إياه إلى تمادي أشجاره وأغراسه إلى سور القصر فطمأنه الجار أن ذلك لم يحصل، فقال له الملك عبارة دالة في حال وقع العكس: بيني وبينك المخزن..بهذا المعنى وليس باللفظ تماما.
وسواء حصلت القصة أم لم تحصل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المعنى/الواقعة، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول سادتنا الكرام من أهل الفقه.
المهم يا صاحبي افرح واضحك ولا تحزن…ليس هناك اي مخزن….أنت هو المخزن.