“يوميات كورونا”/ 12 : اكتشاف كائنات “فضائية” بالمغرب تزامنا مع الحجر الصحي

أحمد الجــلالي

قبل تجربة العيش تحت الحجر والتعايش مع مخاطر الوباء كنت أظن أني امتلك عينا لاقطة لمفارقات مجتمعي، لكن رغم نظاراتي الطبية الممتازة وتمتعي بالحدة البصرية فإن الظروف الحالية أثبتت لي أني لم أك بتلك القدرة الصد التي توهمت.

فماذا اكتشفت يا “أنا” طيلة هذه الأسابيع الوبائية؟

 كانت المقاهي النابتة كالفطر في شوارعنا وأزقتنا تخفي كثيرا من العيوب، تحت سحب دخان السجائر والحشيش والكيف، وصيحات معلقي الكرة الصاخبة البليدة، ولما أغلقت هذه المحلات وسكتت المحطات، اندلق ما بداخلها إلى الفضاء العام وظهر عاريا على حقيقته واضحا تحت شمس الواقع الحارقة الوضاءة.

 أقر بداية أن ما سيرد لاحقا بهذا السرد لا توفره الفصحى ولا الأمازيغية ولا أي من لغات الدنيا، ولذلك لذت بدارجتنا السمحاء، في شقها البدوي الفلاحي كقاموس يفي بغرضي هذا.

 ــ بنادم كيبعبع:

 سلوك غنمي بدرجة رفيعة، أي تلك الأصوات التي كانت تتحلق حول مقاعد المقاهي والحانات وتصدر مقاطع صوتية متداخلة صادرة من حلوق مشروخة بآثار البلاوي الزرقاء والسوداء..هاهي أمامنا بالشارع العام تصمع بوضوح فنكتسف أنها أنكر من أصوات بعض البهائم “تبعبع” كي لا تقول شيئا وترتفع من أجل “لا سبب” وتزمجر كي تشتم أو تفحش في القول.

 ــ بنادم كيgرون:

هو سلوك قطيع الأغنام مرة أخرى، حين تشتد حرارة الشمس ويلفحها لهيبها، وهي في العراء لا شجر ولا حيطان تستطل بها حماية لجلودها فتعمد إلى التلاصق بالأكتاف خافضة رؤوسها إلى الأسفل بطريقة مبالغ فيها كي تصنع ظلا يحمي الرؤوس من الشمس اللافحة.

كذلك يصنع كثيرون هذه الأيام حين يتزاحمون في الأحياء الشعبية والأسواق، يتزاحمون دون ضرورة حد الالتصاق، دون دافع موضوعي ولا هم يحزنون. يفعلون هذا فقط ربما لأنهم ألفوا شم رائحة بعضهم البعض فصاروا عليها مدمنين. ويا للغرابة فحتى الذين “يخطئون” ويضعون على “مناخيرهم” كمامات ليس لها من التكميم سوى الشكل، لا يبتعدون قيد أنملة من وجوه بعضهم حين “يعصرون” وقتهم في الأزقة.

 ــ بنادم كيجحمم:

هي صوة “كلبية” ويجب أن تكون ابن بادية قح شاهدتها في طفولتك وهي تتداعى من كل صوب حتى تصير جمعيا “مجحوميا” معتبرا، ثم تشرع في “الهرننة”، وهي مقدمات النباح، لكي تنتقل مباشرة إلى فعل العضان الذي لا يمكنك تبين سبب واضح له.

مثل هذا يفعل كثير من رعاع البلد، يتكالبون نحو مكان قبل الإفطار وبعده ثم يأخذون في لجاج قد يتطور إلى عراك وشجار..انس يا صديقي اي تباعد اجتماعي أو ما شاكله من “الهضرة ديال الراديون”..هنا عالم آخر لا كورونا فيه ولا آذان تسمع خطابا.

 ـ بنادم كيزعك:

ليس المقصود زعيقا بل “التزعاك” أي الركض البغلي في الحقول الفراغة بعد موسم الحصاد في مناطق فلاحية منبسطة كالشاوية ودكالة والغرب.و”التزعاك” حركة البغل بعد علف دسم أو شعور بالحرية في حقل شاسع به كلأ كثير وخير عميم.

ترى الواحد من رعاع الوطن يركض في اتجاه ما يصدر منه صوت تجمع بشري أو مكان حادثة أو موقع خصام أو تدخل رجال السلطة. يركض صارخا مناديا في رهط خلفه كي يلتحقوا به، يركض سريعا بجسد “مشكودر” وهو ملتفت غالبا إلى جهة اليسار، مثل البغل تماما حين يفر من صاحبه و “العلافة” مربوطة إلى وجهه، وهي الصورة التي رسمها المطرب الشعبي المرحوم داني في أغنية سواكن غرباوية تحدث فيها عن “لشهب” وهو البغل فقال بميزان غنائي ممتع: “لشهب هربان بعلافتو”.

 ــ بنادم كيشفg:

يخرج من بيته مرارا، غير مكترث بقانون الطواريء ولا هو مهتم بكل التحذيرات. يخرج لكي يخرج لأنه يجب أن يخرج وكفى. لا عمل ينتظره ولا نشاط يشغله ولا مقهى يؤويه ولا بيت داخله يغريه. شبع راحة وأكلا ومما يخطر على بالكم..ثم خرج طالبا “الخواء”.

يقف ثم يتحرك ويلتفت ثم يتطلع إلى السماء ثم إلى أفق ما. يلعب في أنفه ويعبث بأمكنة أخرى في أسافل جسده. يحتك بأي شيء، فيعبس ثم يبدو كأنه يريد أن يبكي..وفجأة يستدير ليعبس في وجه أي قادم من بعيد أو من قريب. ينتظر أيا كان ليقول له أي شيء يبعث على الأسى…وهكذا يمضي إلى “اللاحال” لأنه فاقد لسبيل وللغاية…إنهما لعنتا الفراغ والجهل مجتمعتان في زمن وبائي أمام النقاب عن أوبئة لاعد لها.

 ــ بنادم مكوفن:

“التكوفين” ليس كفنا ولا “كونفينمون” الفرنسية، هو شيء مختلف.سأشرح ما وسعني البيان: هي لغة من لغات أجسادنا المغربية المتخاصمة تربويا وسلوكيا مع اللباس والمكان. علاقتنا بهما متوترة، فاللاارتياح هو السمة الأبرز: في مكان ضيق نشكو الضيق، ولكن إن رحب المجال “نتمحكك” كما لو أننا مصابون بالجرب. الصغير منا “يترطى” والكبير فينا ينفر بدل أن يتنفس وكله تأفف من كل شيء.

يخرجون من بيوتهم غير مرتاحين للأرض تحتهم ولا داخل ملابسهم، ساخطين على الفرح والسخط سواء. لاجواب عندهم على سؤال لماذا، ولا يهمهم معرفة علاقة الحياة بقضية “كيف”..ضجرهم المزمن يصرخ تحت الحجر الصحي، لأنهم لا يعيشون أي شيء بشكل “صحي” أصلا. يقفون بأجساد نصف مستقيمة، يثنون نصفهم الأعلى على الأسفل، في معركة مع مفاصلهم لا نهاية لها. يتكومون حول ذواتهم كأن بهم مغصا مؤلما…يستمرون “مكوفنين” حتى الكفن.

 قد تكون صورا كاريكاتورية مني ألبستها الكلمات لكنها حقيقية وموجودة ولا نملك بالمغرب خيالا سينمائيا ولا حسا إبداعيا بالصورة المتحركة ليلتقطها ثم يصبها في قالب توثيقي، وإلا كنا سنرى أنفسنا في مرآة الحجر الصحي الفاضحة.

 دمتهم سالمين واحذروا أن يدهسكم “لشهب” يلا هرب بعلافتو.

www.achawari.com

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد