*عبيد اميجن
“خديجة” ربـة بيتٍ مغربية وإدارية ارتقت صعودا وظيفتها بفضل كفاحها الطويل من اجل التميز الذي خاضته منذ مدة ليست بالقصيـرة، كانت خلال هذه الفتـرة تغيرُ الأمكنـة كما يُبــدل مرؤوسيها المهام المسنـدة اليها، طيلة هذه السنين حفـر الزمن في ملامحها آثار مروره وتجاعيـد أحزانه، ثم طبعها بحجم تجاربه وصقل نفسها بجميل الخبرات التي كرستها خدمة لبلدها، المغرب. تستحق شخصيـة “خديجة” المغربية أن نفصـل فيها بكثيــر فهي لم تتغير مذ عرفتها في العام 2009 فـي أخلاقها وطغيان حضورها وصرامتها في أصعب المواقف، وهي تشبه وليدات برج الأسـد؛ فهي تستطيع تحمل المسؤولية كاملة بكل نجاح وثبات، تحب الحياة الكلاسيكية ولديها الكثير من الأفكار الجديـد، أربعـة عشر عامًا، ونحـن أصدقاء، كانت “خديجة” ترفع شعار:
العمل أولاً، لذلك الصقنا بها صفة السيــدة الأولـى!
ثم الاندفاع والمسؤولية أولاَ وأخيراً؛
يدرك ذلك لا محالة القريب والبعيد، ذلك الانسان المشرد بين الأزقـة ونظيرها من مراجعي مصلحتها من المواطنين، وسيستشعر به الغريب، المار قبل الرحيل، فحتما سيلحظ هؤلاء بعضا أو كلاً من تلك الشخصية الطاغية، اذا صادفته الاقدار بـ”خديجة”، ولكن ليس هـذا ما شدني منــذ البداية الى محدثتي وانما كان لكنتها “الدارجـة” المُتكسرة وملحفتها الصحراوية الزرقاء المزركشـة، كنت انظر الـى الغلاف مستغربا وجوده بعيدًا عن أنواكشوط، وأما جوهر الشخصية فكان هو الغائب عني، واما الانطباع الذي لم يتغير مع الزمن أبدًا فهو رؤية وجهها الباسـم. انتقلت علاقتنا من شكلها العابر الذي يربط الزائر بموظفة جاءت وظيفتها في طريقه، الى علاقة إنسانية تطبعها صداقـة وأخـوة تتجاوز كلينا لتشمل العوائل في “لعيون” و”انواكشوط”!، ومن ذلك، أنه كلما زرت أكادير المغربيـة يتوجب علي المرور بمكتبها رغبة في توطيد ود لا أود قطع حباله، ولا هـي تفرط فيـه!، ومن ذلك لقاءنا الأخير في هذا الصيف العظيم، كان بمثابة مشهدٍ في صورة المعجـزة التي تستحقون علي قصها عليكم، دون زيادة أو نقصان، ودون تهويل أو تبخيس، وكما تعلمون الحياة دروس، وبعض هذه الدروس عظات لا بأس بنشرها افادة وتعظيما.
كنت في منطقة الزلزال قبل أن أقرر المغادرة غافلا الى بلدي، طبعًا كنت بمعية العائلة؛ عندما اتخذت هذا القرار اتصلت بخديجـة مودعًا مساء السادس من سبتمبر الجاري فوجدتها على وشك انهاء عملها الإداري بمدينة تارودانت،.. رغبْتُها بالعودة سريعًا لنودعها فقـد حانت لحظة العودة الى الأوطان، تردَدَتْ قليلاً، ثـم التحقت بنا في أكادير مساء اليوم الموالي.
حضرت متأخـرة، لذلك لم تطل ثرثرتنا على مائـدة العشــاء، اكتفى الجميع بتبادل المستجدات والمشاريـع المؤجلة، ثم ودعتنا. وفي الصباح الباكـر ودعتُ مدينة أكادير الهادئة، متخذا من مسارات وادي سوس، وقمم جبال أطلس والأرياف المتناثـرة على جنبات الطريق الوطني حيث تشدك روعة الطبيعة والسياحة الخضراء، قبل أن نتخذ في الليلة الموالية مدينة طانطان؛ موقعًا للاستراحة. تزخر هذه المدينة التي تنتصب شامخـة بمحاذاة وادْ نُونْ بمآثر تاريخيـة فريدة من نوعها بين مناطق الصحراء الكبرى كما يجد فيها الزائر بنى تحتية سياحية من شأنها أن توفر فرصته لاستكشاف سر الصحراء اللا متناهي. قبل ان نذهب لفراش النوم شعرتُ بهزة أرضيـة من تحت اقدامنا، صاحت بي السيـدة الفندق يتحرك!! كان بالفعل يدور للحظات يمنة ويسـرة..، تترنح وبدأت المؤن والاشياء الصغيرة تتساقط وتتكسـر على أرضية المطبخ، ثم سمعنا صراخا و ضجيجا متقطعًا، .. لم تمر الدقيقة الأولى حتى كان الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ خارج الغرف. فقد كانت الجميع يتسابق فزعاً نحو الأزقة والشوارع الأقرب، وهنالك اتخذنا موئلا للترقب والانتظار ولإدراك حقيقة الصدمـة، وبينما كنت أفكر في مخرج من الحالة الطارئة بدأ قلبي ينبض بسرعـة، دون أن يترك لي فرصـة للتفكير فيما حدث، وأسأل الناس عن طبيعته، كيف لا؟ وأنا القادم من بلاد الرمال الثابتة، الصابرة والتي لا تعرف الاهتزاز….!!! تبينت من بين الصراخ أن الألســن كلها تكرر : زلزال .. زلزال، زلزال، عدت عدواً لغرفتي وجلبت الهاتف واتصلت على الفور بأختنا المغربيـة، التي لم تلدها أمنا أسأل ما حصل ؟ بدا لـي لأول وهلة ان الخوف قد استبد ب”خديجة” و القلق يسيطر عليها، وكانت الأصوات تتعالى بجانبها،… سمعت احدهم يرد على هاتفه وأخرى تطلب من يعيرها ملبسا وثالثا يصرخ بأعلى صــوته أريد ان اعود لبيتي كي ارتدي سروالي.
ردت بصوت متردد، “.. أنا بخير، لكن زملائي بتارودانت لا يردون، أودُ ان اطمئن عليهم، فقد سمعت أن مركز الزلزال قريب منهم”، انقطـع الاتصال بخديجة، لتنقل الينا وسائل الاعلام ما حاق بتلك المدينة، التي دفنت سكانها وزوارها من زملاء “خديجـة”، لقد مات الجميع تحت الأنقاض.
هل كان على أن ابتسم لأنه قد كتب لعائلتي، برمتها حياة جديدة؟ أم أشفق على عوائل مغربيـة تجاهـد لإسعاف فلذات كبدها من تحت الأنقاض؟ أم نتوجه للابتهال معهم على المنابر لمواساة الثكالى والأرامل واليتامى، كنت أرى الجواب في عيني “خديجـة” التي لولا اصراري على وداعها لكانت في عداد المفقودين.. أو المغادرين، لكنها بيننا، تحمد اللـه بعد ان كتب لها حياة جديدة.
كانت المغرب، قد فتحت للتو المدارس والمؤسسات التعليمية لتستقبل مئات الآلاف من التلاميذ والمراهقين وطواقم التدريس بعدما ودعت مراكز العبور البريـة والبحريـة والجويـة ملايين السُيَّاح القادمين بغيـة اكتشاف طبيعة المغرب، والتاريخ والاصالة والجمال وليتمتع القادم من خارج الحدود بمُناخـه المتوسطي المعتــدل، وسكانه المشتهرين كابرًا عن كابرٍ وجيلا بعد جيل بكرم الضيافة تجاه الغرباء والاحتفاء بهم.
ذهب السُيَّاح، وبقيت الأرض لأهلها المضيافين!
ثم، مالت،.. ترنحت واهتزت.. وجاء الزلزال:
“خديجةُ ! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب[1]
أُسمّي الترابَ امتداداً لروحي
أُسمّي يديّ رصيفَ الجروحِ
أُسمّي الحصى أجنحهْ
أُسمّي العصافير لوزاً وتين
أُسمّي ضلوعي شجرْ”
في غمرة النقــاش المحتدم بين العلماء حول الزلازل اذ تشير أصابع الاتهام من بعضهم على مدى ارتباط هذه الظاهرة بالتغيـرات المناخيــة، حيث تتزايد موجات الحر والجفاف في الارتفاع بسبب غازات الاحتباس الحراري، مع ما قد يسببه ذلك من جفاف مستمر وفيضانات غادرة وزلازل مدمرة، فيما يربط الكثير من غير هؤلاء الزلازل بمنحى الأعاصير والعواصف إذ تبعد الصفائح التكتونية كثيرا عن سطح الأرض، لا يجد بسطاء المغرب الوقت لمتابعة هذا القلق العالمي وليست لديهم المساحـة لمتابعة عظات المنجمين ممن يبيع الكلام للقنوات الفضائية، فقد تحتم على هؤلاء الطيبين احياء احدى سنن الكفاح من اجل البقاء، وهـي التضامن والتوحد في وجه الزلزال.
اذ بادر الجميع الى تلبية نـداء بلدهم بتقديم المساعدة لبعضهم البعض في مشهد تضامني نادر فقـد رأيت هـذا يحمل الطعام والماء واللبن للجياع والعطشى، وتلك قادمة بالبطانيات وآخرون ينصبون الخيام تحت سفوح الجبال في تارودانت وشيشاوة والحوز، فعلى ظهر هذه الجبال وتحت ظلالها يقاتل الناس لتقديم العون والإغاثة لمن لا يزال تحت الانقاض بعدما خلَّف الزلزال أكثر من 2900 قتيل و5500 جريح، دون أن ننسى تضرر العديد من المباني والمعالم التاريخية في أكادير حيث كنت أعيش وفي مُراكش حيث يرقـد يوسف بن تاشفين المرابطي.
وحسنا، فعل المغرب، الذي سمح لثلة قليلة من الدول لتقديم المساعدة بشكل مباشـر الى السكان، فمشاهد الفرق الأجنبية التي رأيناها في سوريا وتركيا لا تنسى، فعلى مدى أسابيع طوال امتدت معاناة السوريين والأتراك بعد زلزال السادس من فبراير الماضي، بسبب التعقيدات الميدانية ولكن أيضا بسبب كثرة المتدخلين الذي صعُب تنظيم وضبط تدخلهم و تحركهم، أما المغرب فقد اعلن نهاية اعمال الإنقاذ في ظرف اسبوعان، كنا نتابع خلالهما عبر وسائل الاعلام جهود فرق الإنقاذ المرهقة والتي استعادت بالمروحيات أولا للنزول على ظهر وسفح الجبل نظرا لوعورة المسالك والطرق وبالفؤوس والمطارق الثقيلة لإزالة الحجارة والطوب المتراكم فوق ظهور الضحايا المنهكين.
ولقد كتبت الأقدار لمئات الآلاف ممن اتخذ من سفوح الجبال موطنا ومرتعا وورشة عمل بفعل إصرار رجال الإنقاذ والمجتمع الأهلي على تجشم الصعاب كي ينقذوا العالقين والحياري والجرحى، تماما كما كتب لــ”خديجة” ان تعيش عمرا مديدا.
عدت الى بلادي لأستلقي لسويعات طوال فــوق الكثبان والمرتفعات الرملية،
ولربما ينطبق المثل على هؤلاء فإذا كانت الجبال من فضة فحتما ستصبح الرمال من ذهب، لهذا امضي ساعات وانا اتحسـس الرمال الذهبية، فها هنا يكمن ســرُ ســلامتنا.
وها هنالك، يعاود المغاربة الوقوف على اقدامهم من جديد.
*اعلامي موريتاني مهتم بالشأن الافريقي
[1] مقاطع مختارة من قصيــدة الأرض لمحمود درويش