أحمد الجـَــلالي
من طبيعة بني البشر أن يحبوا ويعشقوا. ومن صميم طبيعة بني آدم أيضا أن يتباغضوا ويحقدوا. والثابت في باب الحسد أن النجار يحسد النجار ولا يحسد الحداد، والشاعر إن حسد سيحسد ويغار من شاعر مثله والغالب أنه لن يحقد على تاجر، والروائي إن حسد فهو يصب حسده على كاتب روائي من بني قبيلته وقد لا يلتفت لمطرب. الحسد يقع ضمن القبيلة والمهنة والفئة العمرية والطبقة الاجتماعية. هذه قاعدة شبه راسخة.
أما نحن الصحافيين، كوننا بشرا، فالواجب أن يكون السائد هو التنافس والتسابق على التميز والوصول إلى الخبر. هذا هو الأصل الجميل والمفترض في الأشياء. لكن الوجه الباطن للأمر يتحول في الغالب بين الإعلاميين إلى حسد وحقد في بعض الأحيان.
من المؤسف أن النميمة تعد واحدة من بهارات موائد الصحافيين وأن الغيبة لها مكان معتبر على الطاولة. ومن المحزن أننا في الغالب الأعم ننتظر حتى يفارقنا زميل أو زميلة لننظم فيهم قصائد الرثاء العصماء.
لنكون أسوياء وجب علينا، في ظني، أن نشيد ببعضنا وأن نصفق لبعضنا علنا بعد كل إنجاز أو عمل موفق، أن نتكاثف في هذا الزمن المر..والأهم أن العمر يمر ولابد من أن نقول لهذا أو تلك: أنت رائع، أنت مبهرة..برافو لكم..مثلا. كلمة لا يجب أن تنتظر حفل تأبين يكون فيه التعبير عن المشاعر الحقيقية قد فات أوانه.
على مر عقدين ونصف من تجربتي على درب الصحافة والكتابة لم ألحظ سوى القليل من علامات الإخاء والزمالة والرفقة الحقيقية بين معاشر الزملاء والزميلات. هناك دوما شلل وتكتلات وقبائل مجهرية يتحكم واقعها في مواقفها أو سلوكها مهنيا وحتى أخلاقيا.
تحضرني وجوه كثيرة جدا هنا وهناك. لكل واحد منهم سمة وميزة وقسمات ومواقف وعيوب وقصة تستحق أن تروى وذكريات مشتركة لا ينبغي أن يعلوها كثير من غبار النسيان.
في هذه المرحلة العمرية، أحب أن أحتفي بزملائي تباعا كلما سمح المزاج.
يحضرني اللحظة وجه من جيل المخضرمين يعرفه الوسط المهني ويعرفه القراء على مدى تجاربه في الصحافة الورقية الوطنية والرقمية.تتوفر به ميزات منها الصبر والقتالية ونبذ اليأس والطموح ممزوجا بحس إنساني رفيع يظهر في المواقف المفصلية في حياته مهنيا واجتماعيا.
ظل يظهر في حياتي مرة ويختفي تارة أخرى أو لعلي أنا من مارست رغما عني لعبة الظهور والتواري معه ومع كثيرين. وفي كل مرة يظهر لي هذا الزميل ألاحظ أن به ثوابت لا تتغير..الذي يتغير هي أحواله المهنية وأوضاعه الاجتماعية ثم رؤاه التي اختمرت..اختمرت كثيرا.
إنه علي مبارك، الصحافي والناشر المغربي.
ذات يوم من بداية صيف العام 2003 أطل في مقر صحيفة “الجمهور” وجه شاب بدا لي بملامح تميل قليلا إلى المشرق. وجه بشوش تسبقه الابتسامة قبل أن تصافحه بأمتار. ثقة في النفس تلفه وتقولها لغة جسده من الجبين وحتى حركات اليدين والخطو.
في تجربة “الجمهور” التي شهد مبارك أيامها الأخيرة كان موزعا بين ما هو إداري محاسباتي/تدقيقي وما هو تحريري صرف. رأيته منكبا على ملفات إدارية وعاينته في مطبخ التحرير. كانت طريقة اشتغاله تقول إن هذا الزميل ينتمي إلى تجربة مغايرة اكتسب منها كل ما يجب أن يتوفر في المحرر المحترف من حس للمعلومة وبراعة في التحرير.
كان هادئا جدا رغم كونه مدخنا. يتحدث بصوت منخفض نسبيا ويحسن الإصغاء للجميع ولا يميل للمماحكات أو اللجاج: يقول ما يعتقده في أمر محدد بجمل بسيطة وينظر في عينيك مباشرة.
جمعتنا تلك الأيام القصير للأسف لكن صلة ما لم أجد لها ساعتها عنوانا أو تفسيرا نشأت بيننا. وحين تفرقت بنا السبل بعد وأد تلك الصحيفة الجميلة صرنا نلتقي لماما بالرباط. وفي كل لقاء أجد عند علي جديدا يشتغل عليه، ومع هذا الجديد يلومني على غيابي الطويل وأن الابتعاد عن الرباط في سن وهجي المهني ليس جيدا لي.
كان يلقي لي رسائل بطريقته وأسلوبه وكنت أشكره وأقول لنفسي هذا شاب لطيف ومجامل. لكنه لم يكن مجاملا بل كان يقصد نصحي لوجه الله ولا يريد مني مقابلا ولا شكورا. هذه الحقيقة عرفتها بعد سنوات للأسف.
ما اثار انتباهي أن علي مبارك متعدد المواهب في الحصول على المعلومة الحصرية وطريقة توظيفها تحريريا والرائع أن له دراية تقنية جيدة بحيث كان يقوم بنفسه بتركيب جريدة بكامل صفحاتها على جهاز “ماكينتوش” كأي “أنفوغرافيست” متمرس.
سأعرف لاحقا أن علي أتى بكل هذه الثقة والتجربة من تجارب مهنية رائدة كان من أبرز صحافييها في مجال الخبر والتحقيق: مدرسة المرحوم مصطفى العلوي “الأسبوع الصحفي” ومدرسة “مغرب اليوم” أواسط تسعينيات القرن الماضي والتي تعتبر برأيي التجربة الأولى في مجال الصحافة المستقلة.
فوجئت حينما علمت ان علي مبارك يقود تجربة “المعركة” ومع من؟ مع الراحل الكبير المحجوبي أحرضان. حينها شعرت ان هذا الزميل يمكن أن يشتغل في كل الظروف ويواجه كل المصاعب. كانت تعجبني الطرائف التي حصلت له مع “الزايغ” وغيره حين يرويها بكل انشراح.
وعلى ذكر السياسيين، فمن النواذر التي صارت معي رفقة علي أذكر أننا كنا في حي حسان بالرباط غير بعيد عن فندق “سوفيتيل” جين التقينا برجل ملتح يعلتي وجهه بعض من المشيب. كان ذلك في صيف 2003 سلم علينا فتنحيت قليلا لأتركهما في حديث حسبته خاصا. أخذ الكلام منهما وقتا أطول مما توقعت. عندما ذهب الرجل قلت لعلي ما يفيد أنه تأخر عني..فقال لي هل عرفته؟ قلت: وجهه غير غريب عني، فاضاف لي جملة/توقعا سيحصل بعد سنوات: إنه عبد الإله بنكيران، لا تستهن بالسياسة قد تراه يوما رئيس حكومة.لم أعلق لكن دار الزمن دورته وترأس بنكيران الحكومة وعشية تعيينه قلت لنفسي مرارا: أي حدس كان ذاك يا علي؟ قد يكون هو نسي لكني لن أنسى هذا أبدا.
تباعدت بيننا المسافة المكانية بحكم العمل ومرت سنوات لم التق علي إلى أن التقينا ذات يوم سنة 2008 وسط العاصمة الرباط. وجدت أنه دخل عالم المقاولة ويقود سيارة كأي رجل أعمال في بداياته الطموحة. باركت له وافترقنا.
بعدها بسنة تقريبا تصادفنا بالرباط وفي حديث الذكريات دعاني لأشاركه في إطلاق صحيفة رقمية. كانت الصحافة الالكترونية في ذلك الوقت بالكاد يسمع لها حس. لكن علي رصد أن زمنها آت مبكرا. قلت له “علاش لا؟”، ولقد كانت فقط محاولة منيي لتطييب خاطره. كانت صحافة الورق وليس غيرها ما يملأ عيني ساعتئذ.
وفي يوم ما اكتشفت صحيفة تسمى “تليكسبريس” على الانترنت. راقني الاسم ودقة اختياره ففيه “التلكس” كحامل معلومة و “بريس” التي تعني الصحافة و يشمل أيضا “ايكسبريس” بمعنى التعبير.
وفي بضع سنوات، وبكد وقتالية عاليين، صارت موقعا حقيقيا ومصنفا ينال حتى الجوائز الوطنية ثم مقاومة حقيقية تشعل زملاء وتدفع كامل حقوقهم غير منقوصة. لقد فعلها علي فعلا.
وفي فترة من فترات “بياتي الشتوي” مهنيا، مع ما يستتبعه من قسوة الحياة ظهر علي مرة أخرى ليمد لي يد العون ويعرض علي ما كان بوسعه أن يقدمه لي. والأروع مع هذا العرض وعروض أخرى أن هذا الصديق كان يقدم النصح لهذا البدوي العنيد بناء على فهمه لشخصيتي وبواعث انفعالاتي.
زميلي علي أتى إلى هذا العالم الخطير من قاع المجتمع ولم يولد وفي الفم ملاعق ذهب ولا فضة ولا نحاس. جاء من الهامش محملا بموروث التجارب المرة التي صقلته وفتنته على نارها حتى استوى. ومن خلال معرفتي ببعض تفاصيل ما قاساه أصررت عليه مرارا أن يكتب سيرته الحياتية. وككاتب وجدت فيها ما يصلح لبناء عوالم روائية مدهشة.
وفي طريق التحدي المهني تعرض لانكسارات وقصف من كل صوب، واستقبل بصدره وظهره الطعنات من الوسط المهني. كان يلملم الجراح ويبلع المرارة ثم يقوم مجددا شاهرا سلاح الصبر و الأمل.هو مقاتل بطبعه.
ورغم هول ما لف حياته في بعض فتراتها من ستائر الظلام لم يفقد إنسانيته ولا نبله وميله الفطري للخير والمساعدة. لم ينتقم من أحد بالمعنى الحرفي وإنما أعاد الاعتبار لنفسه بشتى الطرق. حينما قيل له هذه النهاية قال لا..هذه البداية الحقيقية.
في تلك الليلة ليلة العيد مازالت أذكر: ألو علي مبارك عيد مبارك، أنا بالرباط في المقهى الفلاني. أهلا سي جلالي..آسف والله أنا عند الوالدة في الدار البيضاء. لم أر مغربيا أحب أمه وحرص أشد الحرص على رضاها كما كان يصنع علي مع أمه رحمها الله.
وعلى أنف ما تركته حروب الزمن والطعنات في نفسه لم يتحول صاحبي إلى حقود بل العكس هو ما حصل: دائم السعي لمساعدة الآخرين..الآخرون الذين قل منهم من ظل وفيا له إن لم يكونوا خذلوهم وأكدوا له صحة مقول “اتق شر من أحسنت إليه”. لكنه لا يبالي حين يمضي في طريق قناعاته غير ملتفت.
ومن المفارقات التي حصلت لي مع هذا الزميل الصنديد على صعيد العلاقات الإنسانية أن بيننا أشخاصا مشتركين: منهم من يعدون أصدقاء لي وهو قد لا يستطيبهم كثيرا، كما من بينهم أناس يقدرهم هو بشكل لا يخفيه فيما أستثقل أنا ظلهم أو آراءهم أو أظن أنه يعطيهم أكثر مما يستحقون.
لا أنا غيرت من رأيه يوما أو حاولت ولا هو فاه بما يؤذيني في حق من يعرف أن لي تجاههم عواطف أو اعتبارا خاصا. وكم كان لافتا لي كيف ينصف حتى من لا يستريح لهم أو يتفق معهم. مثلا، قد يقول لي إن فلانا له مواقف غير وطنية لكنه مثقف أو أن علانا لا صلة له بمجال الإعلام غير أنه إنسان طيب، أو أن الشخصية الفلانية أخطأت في كذا وكذا ولكني أحتفظ لها بصدقها ووفائها تجاه القضايا الوطنية ومقدسات البلاد.
غير أن علي مبارك رغم إنسانيته ليس سهلا. لقد خاض حروبا مهنية “دامية” في تجربته الالكترونية وفتح جبهات مشتعلة خصوصا مع “مرتزقة وخونة”. كانت “تلكساته” وما تزال قذائف ملتهبة تحرق من تجد في مرماها بلا هوادة.
هذا الرجل من طينة مغربية خالصة: محافظ في الحدود المعقولة بفعل التربية والمنشأ، حداثي في حدود ما لا يخل بالثوابت، لبرالي فيما لا يضر، تقدمي متنور ذو قناعات سياسية وفكرية مؤسسة على التجارب والقراءات والتكوين العلمي المنطقي بكلية العلوم..وطني ملكي حتى العظم.
في خضم التقاطعات المهنية والنضالية النقابية التي جمعتي بعلي أتيحت لي فرصة اكتشاف الوجه الصارم له. إنه يعرف ماذا يريد من كل محطة ويلم بالتفاصيل ولا تخفى عليه الحسابات.
يكشر عن الجد ويكون صارما مع أقرب الناس إليه ويقول ما يجب أن يقال بلا تردد. والرائع حين تكتشف بعد رؤيته لاحقا. مثلا، حين كان المؤسس الحقيقي لتنسيقية الصحافة الالكترونية عرفنا لاحقا كم كان استشرافيا لواقعها وما تمخض عنه اليوم مهنيا ومؤسساتيا وأخلاقيا.
في بعض اللقاءات المهنية الكبير كان حين يتدخل يطرح مشكلات وحلولا ويكون براغماتيا يبحث عن مصلحة المهنة بوضوح. لشديد أسفي لم يُسمع إليه كما يجب.
لن أغامر بالقول إن لدى علي مبارك مقاربات حقيقية وواقعية للنهوض بقطاع الإعلام وبالصحافة الرقمية تحديدا لو استمع إليه من بيدهم الحل والعقد في هذا القطاع الحيوي الخطير والحاسم.
ولأني متيقن مما أقول فمن حقي أن أتخيل ـــ وهل الخيال حرام؟ ــ أن علي صار مسؤولا يقرر في مجال تطوير الاعلام الوطني متوفرا على الوسائل لتحقيق ذلك. سيحدث ثورة تدبيرية وعليه سوف أراهن.
صديقي وزميلي علي مبارك، من واجبنا أن نعلي من قدر بعضنا في هذا المجال الجميل الموبوء. لن أنتظر حتى نهاية العمر، أطال الله في الأعمار، لأقدم شهادتي فيك وفي غيرك. علينا أن نقولها كما ينبغي “هنا و الآن”.
سلمت وسلم الزملاء وسلمت المهنة. “قلت كلامي..ولكن لا تخف مزال ما قررت نمشي فحالي”.