المهداوي ابن الخنيشات اختبارنا..والصحافة أجمل أقدارنا

   أحمد الجــــَلالي

وكأن قدرنا المقدور في هذه البلاد السعيدة أنه ما أن يغادر صحافي السجن بعفو أو من دونه حتى يخلفه زميل آخر وراء القضبان، كما لو أنه “من العيب والعار” ألا تكتب عنا صحف العالم أن لدى المغرب صحافيين في الحبس.. وأن حكما جديدا صدر بسجن المهداوي .

بالأمس القريب جدا بادر ملك البلاد إلى العفو عن مجموعة صحافيين ونشطاء في سلوك قوبل بشكر المغاربة وفرحتهم، إلى جانب فرحة وسعادة المفرج عنهم، وما أن “تلذذنا” بذلك الانفراج حتى قفز إلى ساحة اهتمام الرأي العام خبر الحكم على الصحافي حميد المهداوي بـ 18 شهرا حبسا نافذا و 150 مليون سنتيم تعويضا لوزير العدل عبد اللطيف وهبي.

قبل أي تفصيل، فلست ضد إفلات الصحافيين من العقاب ــ وأنا في مقدمهم ــ إن فعلنا ما يستوجب العقوبة. غير أني ومع امتثالي للقانون دائما لدي تعبير سككته قبل عقد ونيف: لسنا فوق القانون ولا تحت النعال. والنعال، شرف الله قدركم، أقصد بها كل ما يجعل كرامتنا الإنسانية والمهنية تحت أقدام أي كان.

ومن غير تفصيل، أقر أني والشكر لله بعد ربع قرن تقريبا من الممارسة الإعلامية لم أتعرض لملاحقة ولا متابعة قضائية حتى الآن. صحيح أن بي كغيري رقابة ذاتية تفعل فعلها لكن الانضباط للقواعد المهنية هو خارطة الطريق التي يعتصم بها الصحافيون حين تضطرب الأحوال الجوية ويخيم الضباب.

وعلى ذكر الملاحقات والسجن، هنا للأسف اعتقاد سائد بأن الصحافي الحقيقي هو الذي يذهب إلى السجن. وأكد لي هذا التصور الشعبي مواطن جمعتني به مقصورة قطار في سفر طويل، وبعد أن تعرف علي قليلا سألني عن المهنة فقلت “صحافي” فلم يتردد في قصفي بسؤال ثان: واش سبق ليك مشيتي للحبس؟

أي أنك يا أنا ويا أنتم لن تصيروا صحافيين/أبطالا إلا إذا أديتم “العمرة” في وطيطة أو الحج في عكاشة. طيب، ماذا تفعل لنا أيها “الشعب” حين نذهب وراء الشمس من أجلك غالبا؟ لا شيء تقريبا، وإن كنت محظوظا أصدروا بشأنك بلاغا مقتضبا أقصر من نص تعزية ثم تركوك إلى مصيرك..وميعادنا يوم الإفراج إن تذكرونا.

ولهذا فالإفلات من السجن عندي ليس نقيصة والذهاب إلى “العادر” ليس مزية ولا وساما أعلقه على صدري. ومن رأى في هذا جبنا فليتفضل ويكتب على حائطه الفيسبوكي ما يثبت به أنه شجاع مغوار.

مسقط رأس المهداوي

في نازلة حميد المهداوي أمور مركبة لعل أبرزها حسب ظني هذه المحددات:

ــ جاء إلى عالم الصحافة والنشر من هامش الهامش، بلدة خنيشات، ثم قفز إلى الشهرة ومزاحمة “الورثة الشرعيين” لهذه المهنة، وذلك ليس من الطبيعي أن يمر بلا ضريبة.

ــ مزج في تعاطيه مع المطبخ والإنتاج الصحفيين بين الكائن الإعلامي الأكاديمي والكائن الحقوقي/النضالي فالتبس على القوم من يكون الرجل، والحال أن أحسن ما يمكن أن يتوفر في المهني تعدد الخلفيات.

ــ لو اكتفى المهداوي بالتحرير المكتوب في موقعه لما وصل إلى الكم الجماهيري اللافت الذي يتابعه بمئات الآلاف يوميا، ولكنه دخلها من بوابة منصة يوتيوب، ويجب الاعتراف أنه تفوق وقاتل في سبيل ذلك.

ــ اشتغال المهداوي على يوتيوب وفي نفس الوقت حمله بطاقة صحافي مهني/مدير نشر جعل كثيرين، ومنهم زملاء، يحتارون في وصفه بالصحافي أم اليوتيوبر. أي أن الرجل حامل لقبعتين على الأقل. وهذا ما يطرح أيضا إشكالات وتحديات أمام القانون والقضاء في كيفية تحديد هويته المهنية حين محاكمته.

ــ سبق للمهداوي أن أمضى ثلاث سنوات بالسجن واليوم يحكم بحبسه مرة أخرى وهذا ما يجعله في نظر االرأي العام الوطني والدولي “مستهدفا” حتى لو كان فرضا قد أذنب، لأن تكرار السجن يسهل طرح الأسئلة ويعجل بأخذ المواقف والتموقع إزاء المعني.

ــ علينا الاعتراف بأن الجمهور الذي بات يؤطره المهداوي واسع جدا وأن “يوتيوب المغرب” من دون حميد تنقصه كثير من الأملاح سواء كنت ممن يضيفونها إلى طعامهم أو نصحهم الأطباء بتجنب الصوديوم.

وكأي ناجح في أي مجال لابد من خصوم وأعداء ومنتفعين يحيطون بك من كل جانب. ولعل المهداوي يدرك هذا أكثر من غيره ثم قد لا يرى الصورة كاملة في خضم معمعان العمل اليومي والركض الكثير لإنجاز مقابلات أو تغطيات أو التقاط قضايا وتنزيل فيديوهات طرية حولها.

في هذه المهنة، أحيانا، لا يكون لدينا عدو ألد من أنفسنا. وبعد مغادرته السجن لوحظ أن حميدا صار أكثر رفقا بنفسه من ذي قبل وزاد من منسوب الجمل الاعتراضية، للتوضيح ورفع اللبس في حينه.ذلك تطور إيجابي من وجهة نظر مهنية صرفة.

لن أخوض في تفاصيل قضيته مع وهبي لأني أعرف الرجلين معا. أعرف وهبي منذ عام 2000 وجمعتني به تجربة مهنية اسمها “الجمهور” كان مدير نشرها وكنت من مؤسسيها ورئيس قسمها الثقافي. وكل ما أتمناه ــ ضمن أمان تبدو شبه مستحيلة ــ أن نستعيد وهبي المحامي “ديال” ذلك الزمان. ولو كان المهداوي وجها لوجه مع “وهبي خاصتي الذي في ذهني” لما قاضاه أصلا.

ماذا تفعل السياسة والزمن بالناس؟ أعرف ما يصنع الأول بنا ولكني أجهل تفاصيل وحيثيات ما تفعله الثانية ببني الإنسان. عرفت كثيرين،منهم من درس معي، اصبحوا وزراء ومسؤولين وباستثناء كلمة “مبروك” في حينها صرت دائما أشفق على حال كثيرين منهم، وإني مشفق حقا على وهبي الحالي..مشفق من شغاف القلب.

لاحظت أن قضية المهداوي/وهبي تحظى بالاهتمام على مستوى منصات التواصل، وقد أوصلها أوزين ــ بالغمزة ــ إلى البرلمان غير أنها لم تنل نصيبها على صعيد الصحف الرقمية والورقية.

ولعل مبعث قلة الاهتمام بها من قبل الزملاء المهنيين ونقابة الصحافة والمجلس الوطني للصحافة وباقي المجالس ذات الصلة أنها ربما تكون مبعثا على “بعض الحرج”.. حرج من من ماذا؟ لا أدري على وجه اليقين.

ولكي لا أنعت بالجنون لن أحدثكم عن تجربتي في الصحافة البريطانية وتكاثف أبناء المهنة في ما بينهم أثناء المحن، حيث تختفي الحدود الفاصلة بين مختلف الخطوط التحريرية.

نعود إلى السؤال الأول: حميد صحافي أم يوتيوبر؟ بلا تردد: هو يشكل الحالتين معا، وعلى العقل القانوني والمهني في المغرب أن يستحضر هذه الحقيقة ويجتهد لتكون تأسيسا لما سيأتي بعدها.

وإلا كيف يمكن إلغاء البطاقة التي يحملها والمسلمة من قبل مجلس الصحافة الذي فرض شروطا قاسية للحصول عليها، فإن لم يكن لهذه الوثيقة اعتبار ــ وليس حصانة ــ فما الفائدة منها؟

وإن لم يكن الصحافي المهني أولى باستغلال هذه التكنولوجيا الحديثة لتطويعها كحامل من حوامل الخطاب الإعلامي، فلا تلوموا إلا أنفسهم بوؤوا بذنوب “المؤثرين” ثم تحملوا مسؤولياتكم.

أتمنى أن نشاهد ونسمع ونرى في المرحلة المقبلة من التقاضي ما يثلج الصدور ويرفع هامة قضاتنا عاليا في سماء الإنصاف..أقول الإنصاف ولا أنصب نفسي محاميا لأحد.

ما قبل الأخير، لماذا الصحافة قدرنا؟ إنها كذلك لأنه لا ديموقراطية ولا تقدم في غيابها أو تغييبها.

في الأخير، لماذا المهداوي ابن خنيشات اختبارنا؟ لأنه بفضله صعدت بلدة الغرب الوادعة خنيشات من العدم إلى سلم التداول بفضل ابنها حميد الذي لم يتنكر لها ولم يستعر من الانتماء إليها..وهذا دليل حسن تربية.

وهاهو يختبرنا اليوم جميعا بطريقة مركبة: ليس بأن نكون بالضرورة معه ضد الحكومة والوزير ولا أن نجامل السلطة التنفيذية على حساب زميل صحافي/يوتيوبر..لا بل عن طريق الانحياز إلى سيادة روح النصوص القانونية كما ناضل حميد من أجلها.

أنا كانت “رصي راسك” مع إنصاف المهداوي، وما تبقى تفاصيل سيداويها الزمن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد