بينما كان الملك محمد السادس يرأس مجلسا وزاريا بالرباط حمل من القرارات ما يمكن اعتباره تجاوبا مع المطالب المعقولة التي هتف بها وطالب “جيل زاد” باسم السواد الأعظم من الشعب المغربي، كان ” الأشبال” هنالك في الشيلي، بأمريكا اللاتينية، يكافحون لتحقيق المستحيل: الظفر بكاس العالم للشباب في مغامرة وصلت تخوم الملحمة الرياضية والوطنية.
وحين تتأمل فقط الأساطير الكروية (البرازيل، إسبانيا، فرنسا، إسبانيا..الأرجنتين) التي تخطاها أشبال الأطلس لا يمكن أن تمر على الأمر كأنه شيء عادي..لا، الأمر ليس عاديا بالمرة، إنه معجزة. والأهم ليس الوصف بل البحث عن تفسير مقنع منطقا وعقلا.
المدرب مغربي والخطة مغربية وأكاديمية محمد السادس لكرة القدم مغربية..فكانت الكأس مغربية. ألا سحقا لكل ما هو أجنبي في تسييرنا وفرض “الفهم” علينا.
هؤلاء الشباب احترحوا هذه المعجزة، إلى جانب الوضع الممغرب عن آخره، لأنه يملكون الثقة الكافية في النفس ولا يهابون الطموح في أكثر حدودو جنوحا وجنونا. ببساطة، هذا جيل لا يشبه من سبقه من المغاربة المترددين، نصف الطموحين، ربع الحالمين. هؤلاء الصغار الكبار عمليون وحالمون وعاملون بجد لتحقيق الحلم.
حتى في فرحهم (تسلم الميداليات مثلا) بدوا كمن كان واثقا بالفوز ومعتقد عن قناعة أنه الأفضل. هؤلاء الأبطال يشبهوننا كمغاربة ولكنهم مميزون عنا كثير في المزاج ورباطة الجأش.
والجميل جدا في هذا الفوز العظيم رمزيا ونفسيا توقيته: فقد أحرز أولادنا الكأس العالمية في سياق عربي وإقليمي يعاني الخيبات والهزائم والانكسارات..فأصبح الانتصار النفسي مشاعا وحقا لسكان المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها.
فأبناء الأمازيغ من بلاد المغرب الأقصى ممن ورثوا العروبة والإسلام كغنيمة تاريخية من الكرم بحيث يسعدون شعبهم ويتقاسمون سعادتهم مع باقي الشعوب التي تجمعهم بها أواصر الملة والثقافة والتاريخ المشترك. إنه الاستثناء المغربي الصحي.
وبعد أن تهدأ فورة الحماس ثم الفرحة الهستيرية المبررة بنصر كبير يأتي الهدوء فتفكر بينك وبين ذاتك أو بصوت مرتفع مع من ترتاح إليه من مواطنيك، فترى العجب العجاب من المفارقات في مغرب يسير بأكثر من سرعة:
ـ تسأل نفسك بغباء لذيذ: مادام المغرب قادرا على كل هذه الانتصارات والنجاحات الرياضية فما الذي يمنع تحقيق مثلها في مجالات أخرى تلتصق بالحياة اليومية للمواطن الذي يعاني الويلات في صحته وماله وعمله ومع الإدارة؟
ــ ثم تتعجب أكثر حين ترى فوزي لقجع مثلا بحاله وهيلمانه الرياضي فتتساءل ــ هذه المرة بغضب مر ــ وتريد أن تعرف ما الذي كف عنه ينابيع النجاح في ما هو مالي ويتصل بالميزانية الحكومية؟ مادام للرجل عقل ناجح جعل الفريق الوطني يناطح الجبابرة فلم لا تتفتق عبقرية لقجع عن حلول فينقذ مفلسي هذه الأمة بترشيد جمع الفلوس واستثمارها وتوزيعها..فيصيبك صداع في منطقة الصدغين معا.
ــ ولابد وأنت ترى الشباب يرفعون كأس الذهب لتراها سماء سانتياغو أن تضع في اعتبارك كيف يمكنك أن تشرح للعالم أن الشعب المغربي الذي يصنع أولاده هذا السحر الكبير فيه من مدن الصفيح ما يندى له جبين المسؤلين، وفيه من قبح سوء الخدمات الطبية والمعاملة اللاإنسانية في شتى المرافق، وفيه من الرشوة والفساد ما يتفوق رائحة كريهة على أفظع أصناف القيح والصديد.
ــ وحين تندهش كيف صنع هؤلاء المراهقون الذهبيون هذا التتويج الكوني تقدح في عقلك شرارة سؤال أخطر: ماذا لو منح كل مغربي فرصة أن يظهر ما في جعبته، في كل الميادين، وكان المعيار حقا تكافؤ الفرص؟ أقسم لو حصل هذا فما هي إلا عشر سنوات وسننظر إلى إسبانيا وفرنسا من فوق.
منذ مجيء هذه الحكومة المنحوسة والمغاربة من نكبة إلى أخرى ومن خطب جماعي إلى مصيبة أعظم، ولم تكن بعض مظاهر الفرح القليلة كومضات الضوء المتباعدة في الزمكان سوى من صنع شباب المغرب الرياضي أو من قرارات ملكية تخفف بعض العبء على الشعب (إلغاء أضحية العيد مثلا)، ومن مفارقات الزمن الرياضي المغربي الجميل أن وهبنا الله وهبي في الرياضة (مدرب الأشبال) أنسانا مؤقتا المغص الذي سببه لنا وهبي الحكومة طوال هذه السنوات الثقيلة لحكومة أخنوش.
حدث نيل كاس العالم للشباب وبهذه الطريقة الملحمية وبهذا الإصرار الأسطوري يجاوز الرياضة إلى ما هو أكثر جدية منها، على أهميتها. إنه مؤشر بالواضح إلى المغرب الممكن بل المغرب الذي يجب أن يكون وفي المستقبل المنظور.
إن أبناء المغرب الذهبيين هؤلاء، ومعهم شباب جيل زاد، هم الصرخة التي يجب ولابد أن توقظ النيام وتسمع من بهم صمم شهوة الاحتكار والسير عكس مجرى التاريخ. وإذا كانت نشوة الانتصار والرفع التاريخي لمخصصات الصحة والتعليم والتشغيل في ميزانية 2026 ستنفس بعض الشيء الاحتقان الاجتماعي الحاصل في طنجرة المغرب، فإن ذلك يتعين أن يكون مشروطا بقواعد أساسية، دونها اللعب بالنار والسير رأسا نحو صخرة صماء:
ــ أولا، اعتقال ومحاسبة ناهبي كل القطاعات وضمنها التعليم والصحة ومحاسبتهم واسترجاع الأموال منهم بالقانون، وليس فقط اجتهاد لقجع في توسيع الوعاء الضريبي عبر زيادات أو قرارات مؤلمة لـ” المقدور عليهم”.
ــ ثانيا، الملايير المرصودة للصحة والتعليم، يجب ضمان أن حصة السبع فيها ستصرف حيث يجب أن يلمس المواطن استفادة مباشرة منها، لا أن تذهب إلى التسيير..وسير وسير وشيما درنا في الأخير.
ــ المستشفيات الجامعية وغيرها بالعشرات مما بشرونا به: هل سيجد فيها المواطن علاجا أم ستكتفون بالبنايات العصرية والكراسي المريحة نسبيا (مشي ديال الضص)؟ المغاربة يريدون مستعجلات حقيقية وكوادر طبية تغيثهم في الحين ودواء متوفرا وبأسعار معقولة. ثم، “راميد” و “آمو” والشلة من التسميات..كيف حالهم وما نصيبهم من كل هذه الأرقام المنتفخة؟
ــ أهم من القرارت الحالية وإعادة التأكيد على الدولة الاجتماعية أن تكون الدولة التقطت الإشارات بشكل صحيح، وآمنت بأهمية النقد الذاتي، وقررت فعلا شن حرب بلا هوادة على الفساد، ومن ثم تغيير منهجية الحكامة وشروطها، ففي النهاية الحكم فلسفة وتصور، وقل قال أهل المنطق إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
قرأت منشورا أمس آطربني وآلمني لفرط نباهته وحسن رص كلماته، وقوته في الإظهار والاختصار: “رفع يد المفسدين على المال العام أهم من رفع الميزانيات”. واضح؟
إن جيل زاد الاجتماعي والسياسي والرياضي والعلمي..نعمة من الله خرجب من أصلاب المغاربة وهم مكافأة القدر لنا، ويستحقون بالمقابل من الدولة والشعب مكافأة: بأن نحتضنهم ونمكن لهم ونمنحهم كل الفرص ليكونوا الدماء الجديدة التي تحيي شرايين الدولة وتقوي المؤسسات.
خذوهم بالأحضان ولا تخشوهم فهم أبناؤكم وبناتكم وليسوا عدوا لكم تحذروه.