أحمد الجـــلالي
تتوالى أيام وأسابيع هذا الحجر الصحي الثقيل تباعا. في التلفزيون والراديو وعلى الإنترنت وفي كل مكان لا خبر يغطي على نشرات الكورونا وارتفاع عدد مصابيها وقتلاها.
زمن كوروني أخذ مكان تاريخ بشري ظنناه قد سيتغير بعد قرون، وظن الأكثر تفاؤلا من بيننا أن التغيير آت بعد عقود. فجأة، ومن لا مكان تقريبا نزل البلاء ولم تتغير حياة الناس فقط بل صار عليهم أن يغيرواحتى أبسط عاداتهم.
في ركن من بيتي أنزوي ليلا، والحق ألا معنى صار للوقت فتساوى الليل والنهار، أنزوي لأتابع كل شيء وأي شيء تقريبا. لكنه الملل يستبد بي أحيانا فلا يبقى طعم للمتابعة.
ومع كل هذا الضجر فهي فرصة من أسابيع وربما من شهور للتأمل والتفكير وإعادة النظر في أدق تفاصيل الحياة والوجود ولملمة صورة بعيدة من الذاكرة والماضي والحاضر لرسم صورة متكهنة عن مستقبل ما.
المستقبل لم يعد كلاسيكيا: ثروة وعمل وبيت وسيارة ومتاع الدنيا..ثم تقاعد.المستقبل صار سؤالا وحيدا: هل سنعيش وإن عشنا كيف سنعيش؟
أنزوي في ركن ركين من بيتي بين بيوتات متلاصقة بالحيطان كأنها قطيع شياه شعر بالبرد فضيق المسافة بين القوائم والاجساد جلبا للحرارة.
أتأمل الدولة وركضها في كل اتجاه وسباقها مع الوقت كي لا تنفلت الأمور.يهمني أن تنجح الدولة إلى أبعد حد في هذه الحرب.
أتابع الارتباك الحاصل في كثير من الإجراءات وأتمنى أن يتداركوه في أقرب فرصة..من الكمامات التي قالوا إنها متوفرة بينما هي غائبة عن السوق إلى الدعم الموجود فعلا في الصندوق لكن كثيرا من المغاربة لم يتذوقوا طعمه بعد لأسباب إدارية وتقنية وبيروقراطية.
أفكر في البادية التي توجد على الخريطة ولا توجد على الفعل إلا لماما، ولا ينالها من غيث الحكومات إلا قطرات متفرقة هنا وهناك. أفكر بحزن في الفقراء الذين يجدون بالقتال المرير ما يسدون به جوع الأفواه المفتوحة ذات الشهية الكبيرة للأكل.
أنتقد كتابة وعلنا وأنتقد في نفسي عبر خواطر لا لغة تصفها. لكني أحاول قدر الإمكان أن أبقى منصفا بلا تحامل. هي لعبة خطرة أن تكون مهنتك السؤال والنقد والتنقيب ثم في الوقت ذاته تبذل جهدك كي تنصف.
أنزوي في ركن ركين ببيتي وأشعر فجأة بانشراح لحظي لأني عمليا لست مسؤولا سوى عن نفسي، وأني لست الدولة ولا من مسؤوليها، إني محظوظ جدا فلا شيء من المسؤوليات الثقيلة ألام عليه.
لست مسؤولا عن توفير الخبز للمواطنين يوميا…فلا أنا وزير فلاحة ولا صاحب مطحنة ولا فرن ولا دكان.
لست مسؤولا عن توفير السيولة في البنوك والشبابيك ولا عن كتلة أجور الموظفين شهريا..فلست مدير دار السكة ولا واليا لبنك المغرب.
لست مسؤولا عن توفير البنزين ولا بتقلب أسعاره لأني لست وزير الطاقة ولا مالك محطات أفريقيا.
لست مسؤولا عن توفير الأمن في ربوع المملكة لأني لست مدير الأمن ولا عميدا ولا ضابطا ولا مفتشا ولا عنصرا في القوات المساعدة.
لست مسؤولا عن حماية الحدود ولا توفير رواتب وأكل وسلاح القوات المسلحة لأني لست جنرالا ولا عقيدا ولا ملازما ولا جنديا متدربا حتى.
لست مسؤولا عن قطاع التعليم ولا عن ملايين التلاميذ والطلبة الموجودين رهن الحجر والانتظار ولست مدرسا ولا ناطر إعدادية، كما لست وزير تعليم لابد أن يجب عن أسئلة السنة البيضاء أو الصفراء ومواعيد الامتحانات.
لست مسؤولا عن توفير الأدوية لأني ببساطة لست رئيسة حكومة ولا وزير صحة أو مسؤولا عن دائرة الأوبئة، كما لست صاحب مختبر ولا أنا مالك صيدلية.
لست مسؤولا عن توفير المواد الغذائية ولا عن كمياتها في الأسواق، لأني لست مسؤولا وطنيا عن التموين ولا عن قطاع النقل والشاحنات التي توفر المعروضات يوميا بالأسواق.
لست مسؤولا عن حزب فأفكر في مستقبل التنظيم بعد الوباء وفي أفق الانتخابات لأني لست غاوي سياسة ولا زعامة ولا كواليس مصلحية،لست معنيا بتوفير كميات كافية من الديماغوجية والكذب والالتفاف على أي تمرد تنظيمي أو تيار يخرج لي من تحت قدمي ليحاسبني أو يخسف بي الكرسي.
لست مسؤولا عن العمال وحقوقهم، ولا عن الموقوفين عن العمل ومصيرهم ولا عن التفاوض حول مستقبلهم أو “البيع والشراء” مع اي باطرون باسمهم، ولست منخرطا في تنظيم عمالي حتى كي أكون مسؤولا عن موقف ما في يوم ما.
لست معنيا بالإعلام الوطني الرسمي وليس مطلوبا مني تكييف الخط التحريري مع المستجدات، كما لا حرج يقع علي أمام الرأي العام إزاء هجمات الذباب النفطي هذه الأيام، فلست لعرايشي ولا سليم الشيخ ولا فلانا ولا علتانا، أما مجرد كاتب صحافي متفلت من كثير من القيود التي تفرضها المصالح والولاءات الذاتية.
لست معنيا بقطاع الرياضة ولا بتوقف المباريات ولا تأجيل اللقاءات الكبرى، فلست في مقام “مول الكراطة” ولا من جاؤوا بعده للجلوس على كراس الغرور والسرور الزائل.أنا مجرد شخص يهمهم من الرياضة حركات لا تتعدى نصف ساعة في اليوم.
لست معنيا بالمهرجانات والشطيح والرديح كل سنة مع قدرة فائقة على تجاهل كل المنتقدين لهدر المال العام، فلست صاحب موازين ولا “ماهو زين”،أنا مجرد مستهلك من نوع خاص للفن تكفيني مئات الاشرطة من الفن الرفيع جمعتها على مدى ثلاثة عقود..أستمتع بها متى شئت.
لست معينا بسوق الصحف وطبعها وتوزيعها واستخلاص محاصيل عقود الإشهار، ولن أتحسر كما يفعل كثير منهم على توقف زمن كانوا يدخلون قاعات التحرير لا لشيء محدد سوى لكي يشعروا أنهم مهمون ولهم “خدامة” يطقطقون على الحواسيب ورؤوسهم محنية رهبة من “مول الشي” أو “موسيو لوبريزيدون”، أنا صاحب موقع وناشر رقمي لست مديرا على أحج ولن يكون لي يوما مدير.
“أنا بنعمة وعافية وخير كثير” قلتها لنفسي حين تخلصت من التفكير بكابوس المسؤولية…وأنتم مثلي ربما أو أحسن مني لأنكم لستم الدولة ولستم مسؤولين بها ولا يقع عليكم سوى القليل من المسؤولية.
لا تسكتوا عن حقكم بكل الطرق المشروعة، لكن التمسوا لإخوانكم ألف عذر..فقد قال الأجداد “ما حاس بالمزود غير لي مخبوط بيه”.
www.achawari.com