أحمد الجــَلالي
في هذه اللحظة الدقيقة التي يمر منها وطننا المغرب بكل أشكال المحن والتقلبات والضغوط القادمة من الخارج والتي يصنعها بعضنا لبعض في الداخل، ينتصب سؤال واحد كبير وبوجه لا مجاملة فيه: ما الحل؟ وينجب هذا السؤال سؤالا أشرس منه: من أين نبدأ؟
وبصفتي مواطنا نبت وعاش ويريد أن يموت ويدفن في هذه الأرض الطيبة،تعنيني الإجابات وأصبو إلى الإسهام فيها، ويهمني المستقبل الذي لن أكون فيه بالضرورة.
جواب سؤال: من أين تكون البداية؟ لا أتعب من أجله، ببساطة لأني أعرفه. يجب أن نبدأ من المدرسة والتربية بلا أدنى تردد.وليس هناك أي مدخل آخر.
وحين نتحدث عن المدرسة فالأمر لا يعني فقط ــ بتبسيط غبي ــ الحجرات والطاولات والطباشير وخلافه. المدرسة هي الكائن البشري: الأستاذ والأستاذة أولا وثانيا وثالثا وأخيرا.
كنت محظوظا، وأنا ممنون لعناية السماء، بأن سنحت لي فرصة التمدرس في بداية الثمانينات فيما كانت كل الظروف والعوامل التي نبتت ضمنها تقول إني “مرشح فوق العادة” لأن أكون راعيا محترفا في طفولتي، ثم مزارعا كادحا ثم أتزوج في بداية مراهقتي وأنجب قبل العشرين وأشارك أقراني لعبة الورق وأتقاسم معهم دوخة الكيف ..وآكل وأنام على جهلي ، وفي أحسن الأحوال أستمع أحيانا لخطيب الجمعة وأنا شبه نائم جراء تعبي من الأشغال الشاقة، وقد أكون أحيانا من اليسر بحيث أقتني “راديو كاسيط” أستمع من خلاله لأغاني جيلي ثم ــ في حالة البذخ الفاحش ــ اشتري بطاريات وأشغل الأشرطة على هوى مزاجي.
ويعود الفضل في إرسالي للمدرسة إلى شقيقي سيدي محمد وأبوالعيش ثم لأساتذة يسروا التحاقي بمدرسة كانت فتحت أبوابها بعد عقود من الإغلاق، ثم انتقالي بعد شهر ونصف منها إلى مدرسة أخرى حيث تعرفت إلى سي نور الدين العمراوي.
وصلت في صباح ذلك اليوم البارد في الوقت تماما، أي لحظة وقوف التلامذة في صف منتظم أمام الفصل. وضعت يدي على كتف “عزيز عياد” ولم يكن ورائي أحد ليضع يده الباردة المرتعشة على كتفي.
جلست جنب عزيز في الصف الأمل على اليمين بالمقعد الثالث. طرحنا “القراءة” أمامنا ودخل المعلم مباشرة في الحصة. تناوب التلاميذ على قراءة جمل من نص ذلك اليوم. وصل دوري فسكتت لأن كتابي المدرسي الذي قررته علينا المدرسة التي انتقلت منها كان “التلاوة المفيدة” ولم يكن “إقرأ” للكبير بوكماخ، وهو الأمر الذي جعلني أرفع شعار “ما أنا بقارئ”.
تنبه سي العمراوي للأمر وطلب مني أن أقتني الكتاب المطلوب في أقرب وقت. وذلك ما كان بعد أيام حيث صار لي “أقرأ” خاصتي بصوره المبهرة ونصوصه العظيمة.
تتالت الأيام والأسابيع ونحن نتقافز ما بين تعلم الحروف والقرآن الكريم والخط والحساب. بدأت ألفت انتباه المعلم والتلاميذ بإجاباتي وقدرتي على الحفظ السريع..وغير قليل من الجرأة على “إضافات” لا تصدر عادة عن الصغار في مثل سني.
جاء الامتحان الأول بلحظاته المهيبة المصبوغة بلون غلاف دفتر الامتحانات الأبيض ورائحة المداد التي استقرت في الذاكرة إلى اليوم. نحن نكتب والمعلم يمر بين الصفوف وصمت رهيب يخيم على الحجرة الأولى من مدرسة تتكون من حجرتين فقط.
بعد أيام أعلنت النتائج وكنت “الأول”، ونوه بي السي نورد الدين أمام العشرات من رفاقي، ومن ساعتها ضربت لنفسي بفضل هذا الرجل المربي مع الرقم “واحد”، لكني حملت نفسي بقية حياتي مشاق التنافس على التميز دراسيا ومهنيا، مع ما للأمر من ضرائب باهظة ولذيذة تستحق العناء.
انتصفت السنة وكررت الفعلة نفسها في الامتحان الثاني وكنت على رأس قائمة النتائج، ولما طابت لي بطولة “الأول” صرت حريصا أكثر على أن أشارك وألا أخطئ والأهم أن أرضي معلمي وأكون عند حسن ظنه وأن أتفادى عصاه أيضا، خصوصا عندما أمرني بالوقوف أمام التلاميذ بعد حصة من التمارين كتابيا وشفويا. وقفت وساد صمت وتوجس. قال معلمي للقسم: تذكروا صاحبكم هذا مستقبلا..وتفوه بكلمات مشجعة مازالت طاقتها إلى اللحظة قوية وكأنها بطارية اقتنيت للتو من دكان “ولد عيسى”.
في السنة الثانية استلمتنا الأم الاستاذة الفاضلة فاطمة، وفي السنة الثالثة جاءت وجوه أخرى إلى “سيدي الكامل” وهكذا حتى مستوى الشهادة الابتدائية الفاصلة..وظل سي نور الدين يراقبني ومعي أطفال عباقرة آخرون وكأننا نبتة يرعاها بعينه وينتظر النتيجة.
انصرمت خمس سنوات طويلة كأنها عمر. جاء التحدي الحقيقي ومحك كانت تحيط به الأساطير ليختبر هذا المهووس بمرتبة “الأول”…وكانت معركة حقيقية لعقلي الصغير في “جبل الشيخ”، ويا للعجب هكذا رسمت لي الأقدار أول لقاء مع القضية العربية..جبل الشيخ وما أدراك..وبعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ سأقرأ رواية “المرصد” لحنا مينة لأعيش جبل الشيخ الحقيقي، بعد أن أدرت معركتي الفاصلة في مجموعة مدارس جبل الشيخ بدار الكداري في يوم خميس رمضاني ملئت فيه الدنيا بعواصف من غبار يعمي الأبصار.
انتهى الامتحان وظللنا نذهب يوميا إلى مدرستنا لنعرف النتائج. كانت الأيام تمر ثقيلة في انتظار كلمتين تحييك إحداهما أو تقتلك الأخرى:نجحت/رسبت.
كنت أحاول أن أقرأ عيون باقي المدرسين لاستطلع منها انطباعا أو إحساسا أو قلقا أبني عليه تكهناتي، رغم أني بقيت شبه متيقن أني لابد أن أنجح، وظللت أستعيد إجاباتي مرارا في العربية والفرنسية والرياضيات. كانت وجوه المدرسين محايدة لا تقول شيئا.
ومرت الأيام.. وكنا نقتعد ذات يوم حافة الفصل خارج القسم وفجأة توقفت سيارة على الطريق ونزل سي نور الدين ومعلم الفرنسية عبد القادر جنان.
حدثني حدس قوي ساعتها أنهما يحملان الخبر اليقين. وكلما اقتربا منا ازدادت القلوب الصغيرة خفقانا وكأنها عصافير تحاول أن تطير من أقفاص صدورنا.
وصل جنان ولم ينظر إلينا ودخل القسم ولم يخرج إلينا، مثلما لم نتجرأ أن نسأله. سألت نفسي ماذا يعني هذا؟ أنكون رسبنا جميعا. دخل إلى القسم وتركنا فريسة للوساوس القاتلة.استمر الوضع أزيد من نصف ساعة.
انصرف كثير من رفاقي وبقين متسمرا في مكاني. رفعت راسي فإذا بالسي نور الدين قادم صوب القسم. كنت جالسا ولما رفعت عيني إليه بدا وجهه مشرقا وهز لي رأسه مع ابتسامة عريضة أبهجتني وأولتها في اتجاه إجابي لكنها لم تكن خبرا رسميا.
لماذا هذا يبتسم لي ولا يقول شيئا والآخر، معلم “قسم الشهادة” لا يريد أن يكلمني؟ إنها حيرتي الأكبر.
في هذه الأثناء، كانت المعلمة فاطمة التي درستني في الابتدائي الأول، حيث كان شقيقي مصطفى أيضا تلميذها، كانت تحثه وزملاءه على أن يفعلوا مثل ما فعل “أحمد” الذي نجح في “الشهادة”.. وهكذا علم غيري بنجاحي قبلي ووصلتني التهانئ ممن هم أصغر مني وتملكتني أحاسيس الفرح ممزوجة بالحيرة.
ولأبدد هذه السحابة السميكة من المتناقضات التي نزلت على خاطري ركضت ثلاث كيلومترات بلا توقف حتى وصلت إلى أمي رحمها الله وأقف قريبا منها ثم أتلهى وأستعد نفسيا لألقي إليها المفاجأة.
تملكت الشجاعة وقلت: مي نجحت. باركت لي وقبلتني ثم أخبرتها أني جائع فجيء لي بخبز أمي وشاي أمي والتهمت كثيرا من خبز القمح الأحمر ونصف براد كبير.
أتذكر سي نور الدين تحديدا في هذه الأيام التي تتعرض فيها المدرسة للنهش والمدرس للاسترخاص والتوظيف للمزاد العلني، والحال أن سي العمراوي علمنا مبكرا كيف يكون المدرس ومن هو المعلم:
ــ كان مقاتلا معركته صناعة المستقبل وحربه ضروس ضد الأمية والجهل. ينحدر من مدينة بلقصيري لكنه يشتغل بالبادية في مدرسة لا ماء فيها ولا كهرباء..مجرد سكن بئيس للمعلمين، ونهاية كل أسبوع يحمل حقيبة صغيرة وينتظر الحافلة ليعود باكرا صباح كل إثنين.
ــ كان صوته قويا مسموعا وفصاحته لا غبار عليها، وخطه على السبورة كأنه حروف طابعة وليس كتابة إنسان. كان يعطي أحسن ما لديه رغم تعاسة ظروف التدريس.
ــ لم يكن بالمدرسة مدير ولا مفتش، ورغم ذلك لم نر من هذا الرجل ولا من مجايليه أي غش أو تحايل على الوقت ولا تهربا من المسؤولية: كانوا يقاتلون وكانت ضمائرهم أكبر مفتش لهم.
ــ لم تكن هناك قوانين تمنع التدخين بل كانت السيجارة نوعا من الموضة أو “مكملات الرجولة” وكان سي نور الدين مدخنا شرها، لكنه كان يتعفف أن يدخن داخل الفصل. كان يخرج بين تمرين وآخر ليشرب شايا مع دخينة “طابا نوار”. كان يعلمنا ويربينا، وحتى حيت يلجأ للعصا تكون أخف علينا من عقاب المعلم جنان، والذي لولا عصبيته وإفراطه في العقاب الجسدي لكان أسطورة حقيقية لجدية وقتالية مدرس الثمانينات.
أتذكر سي نور الدين وأضع صورته مكان صورتي، ولم يسبق لي أن فعلت هذا في أي من العواميد التي نشرت على مدار التجارب الصحافية التي مررت بها. أفعل هذا لأن للرجل علي دينا لن أفيه، وليس لدي شك أنه أول من شكل في أعماقي نسق اللغة والقراءة بعيني فقط دون تحريك شفتي، وهو من زرع في بدرة الكتابة والتحدي والاستماتة في التحصيل وما إلى ذلك من صفات تعد دعائم للشخصية الإيجابية والمكافحة.
لم يكن سي نور الدين مجرد معلم صب في ذاكرتي كلاما ونصوصا وحروفا ومضى…لا أظن ذلك. وقد يعرف الرجل أنه فعل الصواب ولكنك حين تزرع البذرة وتنصرف لا تعرق بالضرورة مقدار تأثيرك سوى إذا رأيتها وقد أزهرت وأثمرت.
ولو كان حظي سيئا وسلط علي في ذلك السن الهش معلما مريضا نفسيا أو مستهترا لكنت غادرت الدراسة قطعا وسرت مسارا آخر ليس بالضرورة جيدا.
أتذكر سي نور الدين بكل امتنان وفخر وحنين إلى زمن كانت فيه المدرسة تكنة حقيقية لحراسة المستقبل والسهر على عبور الأجيال نحو النور.
أتذكر معلمي الذي لو كنت مسؤولا بهذا البلد لأطلقت على مدرسة ما اسمه وكرمته ورفعت اسمه عاليا كأي مقاتل بطل عاد منتصرا من معركة مصيرية.
سي نور الدين، لقد انتصرت على الجهل وعلمت الناشئة، وفزت في جولات متعددة على كل الظروف المعاكسة، وتخطيت صراط المسؤولية بنجاح مثلما كنت تصنع أمامنا وأنت تدور فوق حافة ذلك البئر الحجري التاريخي في ساحة مدرستي الحلوة.
سلام لك وعليك سيدي أينما كنت. أطال الله عمرك وأحسن إليك على ما أسديت لجيلي ولمن أتوا بعدي. وهذه ثلاث قبلات من تلميذك: واحدة على رأسك واثنتان ليديك الكريمتين.