الشوارع
فجأة، و بدون سابق إنذار، تبخر الياس العماري و لم يعد أحد يعرف عنه شيئا. الرجل الذي أقام الدنيا و شغل الناس بخرجاته المثيرة و حروبه التي لا تنتهي، صفق الباب وراءه و رحل دون إنذار و لا اعتذار، و كأنه كان يلعب.. في أمور لا تحتمل اللعب.
اين هو إلياس إذن؟ هل “باع” الحزب ؟ و لمن ؟ و بكم ؟ أين هو الرجل الذي ملأ الدنيا ضجيجا و خاض حروبا دونكيشوطية ضد خصومه و حتى ضد أصدقائه ؟
لا يجب أن يفهم من طرح هذه الأسئلة أنها محاولة لإعادة بعثه من رماده، فهو من اختار مصيره بنفسه و هذا شأنه. لكن، بما أنه كان مؤتمنا على حزب سياسي ذي وزن في الساحة، فقد كان لزاما عليه أن يتبع القواعد بدل أن يخرج من الباب الضيق فيشمت فيه الشامتين.
القليل فقط من يعرف سبب هجره المفاجئ للفضاء السياسي العمومي و انصرافه إلى تدبير أعماله، و لكن لأن الرجل كان يرأس ثاني اكبر حزب سياسي بالمغرب، و كان قاب قوسين من رئاسة الحكومة، بعد انتخابات 2016 و خاض إلى جانب رفاقه حربا ضروسا ضد تغول خصومه حتى جعلوا من “البام” حزبا يحمل الأمل للمغاربة في غد أفضل.
لكن إلياس أعلن فجأة عن تقديم استقالته من رئاسة الحزب و مجلس الجهة فيما يشبه تنفيذا لأمر عاجل لا يحتمل التأجيل…
إلياس “الغامض” فتح رحيله الأكثر غموضا الباب على مصراعيه لمحاولات تخمين وتأويل قصد فهم ما جرى: فالبعض يقول إن فشله في هزم البيجيدي هو السبب، والبعض الآخر يعتقد أن “خصاما” بينه و بين فؤاد عالي الهمة، المؤسس والأب الروحي للأصالة والمعاصرة، هو السبب.
تفسير/تخمين ثالث يذهب أبعد مما سلف للحديث عن اختلالات مالية ضخمة تقدر بالملايير تورط فيها الزعيم السابق للبام، كانت مخصصة لتمويل الحملة الانتخابية للحزب، استدعت قرارا حاسما، عبر مكالمة هاتفية من جهات نافذة، تكفل بإيصالها إليه أحد اصدقائه المنتمي لحزب حكومي، يخبره فيها بضرورة وضع المفاتيح فورا و تقديم استقالته على مكتب والي الجهة آنداك، و صادف ذلك يوم سبت، و هو ما لم يتردد في تنفيذه بدون مناقشة، ليستعجل بعدها الاستقالة من رئاسة الحزب.. أمام ذهول الجميع.
شكل الحدث يومها قنبلة داخل الحقل الحزبي و السياسي، جعل الجميع يتسائل: كيف لحزب يوجد في أوج قوته السياسية أن يحصل له ما حصل ؟ و أي خطيئة ارتكبها الرجل ليغادر منصبه مطأطأ الرأس و هو الذي لا يفوت فرصة لادعاء الأنفة و القدرة على الصمود و مواجهة الخصوم.
لسنا هنا بصدد نفي أو تأكيد هذه المزاعم، لكن ما ينطبق على إلياس العمري قد ينطبق على غيره من الزعامات السياسية التي تدعي الكاريزما وهي ليست كذلك إطلاقا.
القائد الحقيقي لا يغادر السفينة و هي تبحر، فبالأحرى و هي تغرق. هذا ما أفادنا به أحد معارفه السابقين داخل الحزب والذي تكلم بحسرة كبيرة عن كيف نكث إلياس العهد و تنكره لرفاقه داخل المكتب السياسي ممن ساندوه في المحن وبنى على اكتافهم مجده السياسي، ليفاجئوا بسلوكه الأناني و ضربه عرض الحائط ما توافقوا عليه من تعاقد تنظيمي و سياسي، بل إنه تنكر حتى للعلاقات الاجتماعية التي على ما يبدو لا تهمه. و يضيف مصدرنا أن إلياس العمري “كان فقط صاحب شعار و لم يكن صاحب مشروع، بل ظهر أنه كان مكلفا بمهمة و لم يكن قط يحمل قضية، لأن من يحمل على كتفيه قضية يقاتل من أجلها”.
ويتحسر المصدر على فعل “الزعيم” الذي “فضل الهروب و لم يكلف نفسه عناء تقديم تفسير لسلوكه، و لن ينصفه الناس و التاريخ لأنه يتحمل المسؤولية الكبرى في الوضع المؤسف الذي وصل إليه البام اليوم”.
مصدرنا فتح لدينا شهية طرح مزيد من الأسئلة لكنه توقف عن البوح بمزيد من التفاصيل بدعوى أن “المجالس أمانات، و أن ما فات قد فات و يجب أن نذكر موتانا بخير”.
في الدول الدمقراطية، والتي تحترم قواعد اللعبة، بعد تقاعد أغلب الزعماء و القيادات الحزبية و السياسية لسبب من الاسباب، فإنهم يستمرون في الانخراط و الالتزام بالدفاع عن قضايا بلادهم في كل المنابر، مستفيدين من التجارب و المعارف التي راكموها طيلة مسيرتهم السياسية.
أما عندنا في المغرب، فأغلب المتقاعدين من أهل الاحزاب والسياسة ، ينصرفون لتدبير ما راكموه من ثروات مالية، مستفيدين هم أيضا من استغلالهم البشع لمواقع المسؤولية التي تبوؤوها.. كأصل تجاري مربح.
بعد ترك إلياس سفينة البام تعاقب عليها إلى اليوم ربانان غير أنهما وبدل إكمال الرحلة انكفأ الحزب على عهديهما على نفسه، ولم تكن مشاركته بحكومة أخنوش إضافة نوعية تفيد هذا التنظيم في المستقبل، ومعه جزءا من الكتلة الناخبة التي بوأته المرتبة الثانية وعلقت عليه غير قليل من آمالها، صارت هذه المشاركة على يد من اختيروا للاستيزار وفي مقدمهم وزير العدل وهبي، صارت ورطة إضافية مع الرأي العام.
وقد صار الحزب اليوم في مفترق طرق وعر: فإما تجديد النخبة التي تدير دفة السفينة وإعادة الإحياء العملي لشعار “السياسة بشكل مغاير” أو السير في سقوط حر في طريق التقزم ثم الانقراض.