أحمد التجاني
لا زالت مخيلتي تحتفظ بصور طفولية مرحة من ماضي مدينتي ومعالم منحوتة على قرص ذاكرتي، حتى وإن برحت مكانها ورحلت قبل أن تستوطنه أشكال إسمنتية وخلوات “غير طبيعية” لا زالت تؤدي مهمة اللا دور، وما أكثر هذه الأماكن في حياة مدينتي اليوم..
المخيال الطفولي عادة ما نحن إليه بحب، وننحاز لتفضيله عن الواقع المعيش لكن، حين ننصت لمن جايلوا قبلنا أحداث و وقائع من المعيش اليومي لمدينتي، لا يكاد عقلي الصغير يستوعب المنحدر الذي وصلنا إليه اليوم!!
كان ماضينا مشرقا، له جوانب منظمة، فلاحة ناجحة إنتاجيا وتسويقيا، تعداد سكاني قليل ومقدور عليه مع توفر فرص شغل كافية لتواجد ضيعات فلاحية تشغل الآلاف من الجنسين، وأربع وحدات للتصنيع، المعالجة، التلفيف والتخزين، ناهيك عن مشاريع تجارية خصوصا بيع الآليات الفلاحية وقطع الغيار..
جمالية المدينة كانت بطبيعة ربانية.. أشجار الأوكالبتوس والصنوبر في كل مكان، والنباتات ذات الطبيعة الصيدلانية مثل فليو، الزعتر، بوكبار، معطيرشة، السالمية والخرواع وغيرهم كثير جدا وتعلمون أن بعض هذه النباتات تشكل منذ زمن ثورة في عالم تجارة الصيدلة، أما الصبار وصنوه الزعبول فيكفي القول أن وحدات صناعية صيدلانية عالمية منذ 1982 تحولت للمكسيك على سبيل المثال لا الحصر وعززت من قدراتها الإنتاجية في التسعينيات هناك لأن استخلاص زيت الصبار أو الزعبول أو نبتة الكاكتوس تكال اليوم بميزان الدهب.. أما جانب الأنشطة الموازية والرياضية كطواف الدراجات الخاص ببلقصيري والعدو الريفي والكرنفال في إطار احتفالات اختتام الموسم الفلاحي الذي كانت تعرض فيه وسائل نقل فلاحية تحمل مجسمات للشمندر وقصب السكر والليمون والماندرين ومئات النساء والرجال بطابليات العمل تؤثت العرض فرحة ومعتزة بذواتها وهي تلوح بالأغصان وبعض اللوحات التعبيرية لجماهير المصطفين على جنبات الشوارع وخصوصا المدارة الرئيسية التي كان يتوسطها مجسم للقدس الشريف.. كل هذه الأنشطة والأحداث والمعالم تعطي إنطباع منطقي بنجاح المدينة اقتصاديا والرخاء في حدوده المقبولة الذي ساد حياة الساكنة.
حتى المستشفى المحلي كان به قسم ولادة نشيط، وإسعافات أولية في المستوى بل، توفر على قسم للتحاليل!! وفي فترة قريبة كانت به معدات طبية مهمة لم تستعمل والغريب أنها خضعت للصيانة غير ما مرة!! ولم تستعمل بالمرة ربما لعدم توفر الموارد البشرية.. كل هذا تبخر في صمت، وكأن هناك متربصون أصروا على إفراغه من قيمته ومحتوياته ودوره على مستوى الدائرة ككل!؟
اليوم لا شيء من كل ما ذكر تمتلكه مدينتي، بل تحول الإرث لأزمة تجارية خانقة، وتضاعف مهول في حجم البطالة، ضاعت مشاريع التشغيل وبالمقابل تضاعف تعداد السكان بشكل غير مقبول، وهذه المقاربة إن صح القول غير مقبولة وكان المفروض لو حضرت خاصية التخطيط، الدراسة والقراءة الإستشرافية لأرقام الواقع، لتم تدارك المنعطف التاريخي الخطير الذي أصاب المدينة في مقتل وحول مسارها من “بلدة” بمقومات معينة المستعمر نفسه حافظ عليها وثمنها، إلى تجمعات إسكانية بدون أسلحة عيش في أبسط متطلباتها؟!
لن أدقق في من كان السبب في قتل مشاريع التشغيل بالمدينة باسم العمل النقابي أو تعنت من جانب الباطرونا، ولا أبحث عن من حدث في عهده هذا التحول/الجريمة، فأنا لا أرمي بمقالي هذا لشخصنة التقصي، بقدر بحثي في فترة أو فترات التحول ودراستها وتوفير القدر الكافي من المعطيات وعكسها على واقع المدينة اليوم ومعيقات التنمية فيه، ليسهل إيجاد مخرج أو لنقل تحول استراتيجي عكسي أخذا بعين الاعتبار طبيعة المدينة وما يناسبها، وما يجب أن يميزها لأن التنمية ليست تابوتا بقياسات موحدة، فالحزام المائي لوادي سبو الذي يحيط بخصر المدينة كان من المفروض أن يلهم دهاة السياسة ٱنذاك، والفرشة النباتية المنتشرة على سجيتها معطرة الأجواء كان يمكن أن تكون جزءا من الحلول وجلنا يعلم قيمة النباتات العطرية والطبية.. تركنا كل هذا واتجهنا للإسمنت والإعمار وبترنا السواعد الإقتصادية وحكمنا على أنفسنا بواقع الحال.. لكن الخطير الذي يحيلني على اليأس رأسا، هو ٱليات العمل الفكرية والسواعد الميدانية التي تلت فترة التحول تلك.. سارت هي كذلك على الدرب ولم تجالس الوضع باحتراف سياسي نبيل، ما يبشر بطول أحمد الأزمة، حتى بعض المنشٱت التي أثمنها صراحة كالثانوية الفلاحية، حتى وإن كانت مجرد بعث لمنشأة كانت قائمة بماضينا الجميل، وبالضبط بإعدادية ابن بصال، ولكنها عموما تستحق الثناء، لكن، لماذا لم نفكر في مٱل الطلبة المتخرجين من هذه المعلمة محليا؟ وكذلك الشأن بالنسبة لمركز التكوين المهني.. منشأتين تستقطبان شبابا وشابات من مدن ومداشر كثيرة محيطة بنا، لماذا لا توجد رؤية محلية للاستثمار في هذه الطاقات؟ خصوصا وأن طبيعة النموذج الأول له علاقة مباشرة بطبيعة منطقتنا!!
عقلي الصغير لا يحتمل كل هذا الهدر للفرص والطاقات، والسير جنبا إلى جنب مع المخاطر دون أن تهتز فينا شعرة خلاقة سوى من تنهيدات متباكية على واقع الحال.. حين أقارن ما يجري بمدن ومداشر لا تبعد كثيرا، من تطبيق وتنزيل لاستراتيجيات الدولة في مجال التنمية على سبيل المثال لا الحصر في صيغتها الأولى والثانية، يتبين لي أن مشرع بلقصيري الوحيدة التي تسير في اتجاه معاكس انحدارا !!
ترى متى نطرح الأسئلة المناسبة، حتى وإن ضاعت أوقات كثيرة ملائمة لذات الأسئلة؟ فالأهم أن نبدأ بطرح الأسئلة المناسبة لأنها عادة تكون نصف الجواب.
كل الحب والتقدير مني لكل متصفح لهذا الحنين المتباكي، وأتمنى أن نفتح نافدة صغيرة للنقاش في هذا الإتجاه، إغناء للموضوع بما ينقصني طبعا من معطيات، وتحليل أعمق للأزمة وتبعاتها الاجتماعية والأخلاقية التي لم أتطرق لها، فالتغيير يحتاج نقاشا من هذه الطينة لتخلقوا من بينكم نخبة متجددة ترفع الغبن السياسي الجاثم على بلدتنا منذ عشرات السنين.
www.achawari.com