أحمد الجَـــلالي
بمناسبة عدم وجودة اية مناسبة شخصية او أسباب نزول اهداني الصديق أيوب بوهوشي، الشاب القنيطري المبدع في فن الكاريكاتير، هذا الرسم المرفق بهذه المقالة. شكرا أيوب بكل عبارات شخصي المتواضع.. المقدر عاليا لكل للموهوبين.
لكن المغرب يعيش هذه الأيام مناسبة وطنية مركزية هي عيد العرش، والذي القى فيه الملك خطابا ركز فيه بشدة على مفهوم واهمية الجدية في كل شيء وحيويتها لحاضر الامة ومستقبلها.
ككائن ادبي أساسا اقلب الخطاب الشفوي والمكتوب تقليبا علميا يجمع بين عدة مناهج منها المنهج الاحصائي بحيث قبل ان ينهي الملك خطابه كنت قد احصيت كم كرر كلمة “الجدية” من مرة.
وتكرار الشي يؤول على أساس أهميته وملحاحيته ويفسر مبرر التشديد عليه بحضور نقيضه. ونقيض الجدية ليس الهزل او السخرية بل نقيضها هو اللامبالاة، والتي سماها اجدادنا بدارجتنا المغربية السمحة “لملاغة”، وهي مفردة قوية ودالة.
فلو كانت الأوضاع تتسم في المغرب بالجدية الكافية لما اضطر الملك ان يشدد على الجد الغائب في جل المؤسسات وحتى عند فئات عريضة من شعب صار يختلط عليه الجد والعبث ويقارب قضايا ساخنة اما بتعبير ساخرة او بلامبالاة قاتلة.
ولو كانت البلاد تعيش بقانون الجدية والمعقول لأفرد الملك جل خطابه لتعداد نتائج العمل الجاد حكوميا ومؤسساتيا في كل نواحي الاقتصاد المنتج والخدمات الرائعة والرقي الوطني في سلاليم مؤشرات التنمية عالميا.
والحال ان الحال لا يسر صديقا ولا عدوا بفعل كل هذه “لملاغة” السائبة في اداراتنا المعششة في عقول غالبية المسؤولين سواء كانوا معينين او منتخبين أتوا لتسيير الشأن العمومي عن طريق تلك الانتخابات التي تعرفونها شكلا وخبرتم روائحها مضمونا.
فماذا يستطيع الملك ان يصنع إزاء كل هذا التشظي في رقعة المعقول الاخذة في الانكماش؟ ولمعرفة الطريق الى الجواب جربوا ان تضعوا أنفسكم دوما مكان من تسالونهم او تنتقدونهم من اجل الفهم أولا والموضوعية في الطرح أخيرا.
وقد سالت نفسي مرارا ومنذ سنوات ماذا كان سيكون باستطاعتي فعله لإنقاذ المغرب لو كنت مكان الملك؟ وقبل سرد الاحتمالات التي تأتي عفو العقل والخاطر ادركت يقينا كم سعداء نحن الذين لسنا ملوكا ولا ورؤساء ولا مدراء..فالمسؤولية لدى من يقدرها هم والأمانة عند أهلها حمل يكسر الظهر ويأكل من أعصاب وعقل وصحة المؤتمن عليها ليل نهار.
ــ ماذا ستفعل أيها المواطن البسيط يا انا لو كنت من باب الافتراض مكان الملك؟
ــ أجبت نفسي بنفسي بعد ان ضربت الاخماس لأسداس:
ــ سأبني أكبر سجن في العالم يتسع لآلاف الفاسدين.
ثم ماذا بعد؟
ــ ساصادر ثرواتهم واعيد تلك المنهوبة لأرض الوطن.
ــ ثم؟
ــ ثم سأبحث عن مسؤولين جديين جددا اضعهم مكان الفاسدين
ــ ومن اين ستأتي بهؤلاء الجدد الاتقياء هل ستستوردهم مثلا؟
هنا ادرك ان مرض لملاغة اكبر واخطر من أي اندفاع انفعالي عاطفي. فالمشكلة تعقدت حينما اصبح ماء النهر الوحيد ملوثا ومهما غيرنا الاواني فالإصابة بالملاريا حتمية.
ــ واذن ما العمل يا كاره لملاغة يا أنا؟
عندما تجاوزت الأربعين اصابتني لوثة التعقل وأدركت أن مسألة بناء الذات الوحيدة اشق من بناء الاهرامات بكل اسطوريتها، فما بالنا جميعا بإعادة بناء شعب ثقافيا وسلوكيا واستهلاكيا واخلاقيا؟؟
هنا أدركت الحظ الكبير الذي رزقنيه خالقي بحيث لم يجعلني زعيما ولا مديرا ولا مقدما ولا غفيرا. واكتشفت كم هي مهمة خطيرة ان تكون من مساعدي مساعدي مساعدي الملك، بله ان تكون ملكا رئيسا لدولة مسؤولا عن امة.
الحمل ثقيل بل أثقل من أثقل ما قد تتصوره العقول.
هل يعني هذا ان ليس بيد الملك ما يفعله لزعزعة راحة أصحاب لملاغة ومحاسبتهم؟
كلا، بيد رئيس الدولة ما لا يحصى من الاليات القانونية الدستورية والمادية القهرية لفرض إرادة “الجدية” على كل التافهين العابثين الخبثاء الفاسدين المفسدين.
غير ان كل هذا لا يجعل من الملك كائنا خرافيا يقول للتغيير كن فيكون، ولا كونه يملك عصا سحرية تقلب الأوضاع راسا على عقب في لمح البصر. الملكية قوة مركزية وسط مراكز قوى محلية ودولية متحركة تنتبه لإكراه التوازنات والاستقرار قبل كل شيء، في تقديري.
وأحسن سيناريو يمكن ان يذخره القدر لبلادنا ليس التغيير القسري عن طريق الرجات أو الاستمرار في الطريق رأسا نحول الهاوية بل ــ نسألك ربنا يا ذا اللطف ــ هو انتصار إرادات البناء على إرادات الهدم الشيطاني، في نهاية الطريق.
لنعد إلى الكاريكاتير رمز السخرية والهزل ما الذي يربطه بالحديث عن النقيض المفترض “الجدية”؟
وأنا الذي أحاضر عليكم في “سبل التغيير الجاد” ما علاقتي بالجدية وكتاباتي تقطر سخرية؟
بخلاف ما يعتقد خطأ حول الساخرين فهم أكثر الأشخاص تطرفا نحو المعقول والجد.
وسواء كان الساخرون رسامين او كتابا شعراء فهم عرابو العمل الجاد الذي يأخذهم غالبا الى الجحيم، ولكا في التاريخ العربي أمثلة فصيحة.
ــ الاب الروحي لفن الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد ناجي العلي تعرفون كيف قتل غدرا في لندن برصاصة غادرة في الراس.
ــ الساخر الكبير عمنا محمود السعدني، الحقنا الله به مؤمنين ساخرين، عاش متشردا في العواصم، وقبل المنفى سجنوه وهو محسوب على الحكومة ثم اعتقلوه وهو ضد الحكومة ثم ادخلوه المعتقلات وهو لا مع الحكومة ولا ضد الحكومة.
ــ الكبير احمد مطر، الذي عرفت عنه شخصيا ومن قرب، الشاعر ذو اللافتات صاحبة لغة تتموقع ادبيا فوق الشعر وتحت الوحي، عاش مطاردا من قبل طاغية العراق مهددا بالتصفية من قبل كل كلاب الأرض الواقفة ضده.
واللائحة تطول ولا تقصر في هدا الباب الموجع قصصا وحكايات ومآسي تغرق وجه الإنسانية خجلا لو انتصر الانسان لإنسانيته.
الساخرون ليسوا هازلين بل يعبرون بالريشة، تحت وطأة وحرقة المتناقضات، عن تشوهات واقع معوج يأبى الاستقامة.
الساخرون ليسوا عديمي جدية بل يكتبون بالكلمة تاريخ الانحرافات ويحتجون عليها بالإبداع حيث لا سلاح يملكون في مواجهة الغطرسة سوى سياط العبارات على وجه الجلاد وبشاعته.
الساخرون هم الأعداء الكونيون لأصحاب “لملاغة” في كل زمان ومكان. الساخرون، كل الساخرين والساخرات، هم بقايا الضمير الإنساني في فصيلة تكاد تنقرض بعد ان مسخت الى تشوهات ذات ايد وارجل…لسنا أعداء الجدية…اعداء الجدية هم اللامبالون. قولا واحدا.