حين اعتليت المنبر خطيبا للجمعة…بدوار كل مصليه أميون

أحمد الجـــــلالي

بعد يومين بحول الله، أي يوم الجمعة المقبل سيعود الناس في بلادي إلى التجمع بالمساجد لأداء صلاة الجمعة. سيحدث هذا لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر حيث غابت الجمعة تماما من حياة المؤمنين أشهرا طوالا.

نقول لله الحمد في الضراء والشكر في السراء، ونضرع له سبحانه عز وجل أن يرفع عنا الوباء والبلاء وأهل الغباء.

منذ طفولتي كانت علاقتي متوترة بيوم الجمعة، فهو يوم “بلا شخصية” في نظر طفولتي: أي نعم كان نهاية شبه اسبوع من الدراسة متبوعا بيوم سبت يعيدنا إلى مقاعدنا البئيسة في انتظار أحد ضيق باهت لا يكفي لممارسة برنامج اللعب الذي لا ينتهي بين الكرة وصيد العصافير ومطاردة الأسماء بصنانير أطلقت عليها أسماء مختلفة بحسب شكل تفاعلها مع “غمزة” الخيط.

تلك عادتي منذ الصغر أشيئ المجرد وأضيف للمادي الملموس أوصافا “تعيد ترتيب الطبيعة” بتعبير الشاعر محمود درويش.

يوم الجمعة صار أيام الثانوية والجامعة نهاية أسبوع يحتاج للكثير كي يكون ذا معنى ومذاق. وعموما لم أكن أستطيع تذوق فاكهة تسمى “الويكند” كما اشاء.شغلت نفسي بدل ذلك بما ظننت أنه سينفعني. شيء من النفع كان..وكثير من اللامعنى قابله.

وفي أيام العمل الصحافي صار ليوم الجمعة بعض الطعم والمعنى، سيما أنني في سنوات “طاحونة” الجرائد الورقية اليومية كنت “أتمتع” بيوم عطلة وحيد كل أسبوع هو السبت وبعده نعود للعمل….نحن وعمال النظافة في صباحات تلك الآحاد مشيا على الأقدام من “البيضاء الميناء” إلى حي بوركون حيث مقر صحيفة الصباح…مثلا.

أعود إلى الجمعة…الصلاة وليس اليوم الأسبوعي. في ظني أنها مناسبة بيداغوجية إيمانية يمكن أن يصنع من خلالها الكثير وتغيير الثقافة السائدة وبعث الرسائل الفعالة لو وظفت كما ينبغي وسايرت الزمن الحاضر بروح الإسلام العابرة للزمن.

حينما أشاهد بعض خطب الجمعة للدكتور إبراهيم عدنان وأتمعن في مضمونها وشكلها وبراعة صاحبها وجدة وجدية ما يخاطب به الناس ببذلة عصرية أنيقة أتخيل الأمر يحدث في كوكب آخر. وهو فعلا مقارنة بما نحن عليه من “ومن لغى…” إلى نهاية الخطبة..كوكب آخر بما للكملة من معنى. إنه مسجد للمسلمين في النمسا جارة ألمانيا مهد الفلاسفة والعلماء.

أنا لا أفهم الجدوى من خطبة بالعربية الفصيحة أمام أناس هي لغة أجنبية بالنسبة لهم، زد على الأمر تفشي الأمية المفزع.

كما لا أستوعب أن تكون العربية الفصحى هي لغة الخطبة بعمق منطقة سوس أو الأطالس بكبيرها وصغيرها ومتوسطها. هل مخاطبة المسلمين بلسانهم الذي يفهمون به العالم حرام؟ وإذن على إيران وباكستان وأفغانستان وبنغلاديش وأندونيسيا وماليزينا أن “تستغفر الله”؟

أتيحت لي فرصة وحيدة لم أسع أنا إليها لأطبق منظوري لصلاة الجمعة، أو على الأصح مضمون خطبتها.

كان ذلك قبل سبع وعشرين سنة. كنت في عطلة جامعية وما إن أنهى الفقيه صلاة عصر يوم خميس حتى التفت إلي ـــ أمام أهل البلدة ــ وقال: ها لي غيصلي بكم الجوموعة.

نزل علي الأمر بغير قليل من المفاجأة والدهشة. فلا تمنيت أن أكون إماما ولا رأيت في ذاتي ما يصلح لأكون كذلك. لكن الفقيه قرر وليس لي إلا القبول.

وفعلا جاء يوم الجمعة واعتليت المنبر. وقبلها بيوم حضرت في ذهني خمس نقاط اعتقدت أنها من صميم معيش أهل البلدة وأعرف أن للإسلام فيها قرآنا وحديثا رأيا وتوجيها.

ضبطت أفكار وقررت أن أخاطب الناس بما يعرفون ويفهمون، وطبعا ارتديت ذلك الجلباب الغالي الذي نسجته لي أمي رحمها الله بيديها الكريمتين وما زلت أحتفظ به إلى يوم النسا هذا في حقيبة خاصة.

لن أعود بكم لمضمون الخطبة ولكن لأسلوبها:

ــ تعمدت أن يكون المضمون منطبقا ومتماهيا مع حياة الناس..وقد رأيت حركة رؤوس وإيماءاتهم  وأنا فوق المنبر تقول ما يفيد: أي والله فعلا

ــ تعمدت أن أعطي الأمثلة بوقائع معروفة لدى المتلقين وقارنتها بما فعل السلف الصالح لنرى الحكم والحكمة والفرق ويتضح المقصود

ــ تعمدت أن أشرح الآيات والأحاديث بالدارجة، دارجة أهل بني حسن تحديدا كي أتحدث للناس بلغة يتنفسونها وبها يجب أن يفهموا الدين والدنيا.

باختصار مرت الأمور كما أردت تماما وظننت أن صدى “ولد منصور صلى بنا” سيبقى بالمسجد إلا أن الأمر تعدى ما توقعت.

كان للمسجد مكبر صوت حديث الاستخدام وقد كانت مسامع الناس تلتقط كل شيء، أي أني كنت على الهواء مباشرة أتوجه إلى جمهور أوسع مما خمنت.وقد جاءني صديق من أقراني هو الهاشمي الفلاح رحمه الله ليقول لي بكل عفوية البدو: اعجبني خويا دكشي وبحال لي كيهضرو فراديون.

سأعلم لاحقا من أحد شيوخ القرية، المرحوم لخليطي الملقب تحببا ب”حميد” أنه تلك الجمعة كانت المناسبة الوحيدة التي فهم فيها كل ما يقال على المنبر، رغم أنه كان مواظبا على الصلاة عقودا طويلة..وأنا من الشاهدين.

أنه تداعي خواطر بسبب العودة إلى الجمعة وطقوسها بعد يومين بإذن الله…نعم سنعود إلى صلاة الجمعة…إنما الأهم أن يعود بنا القيمون على الشأن الديني إلى روحها التي من أجلها شرعت.

تقبل الله منكم جميعا.

www.achawari.com

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد