أحمد الجــلالي
أواسط تسعينيات القرن الماضي كنت أتنقل فرحا بإجازة من جامعة محمد الخامس مرقونة ومسجل عليها “ميزة حسن”. ككل ابن بادية شاب متحمس ملؤه الأمل، كنت أظن أن تلك الميزة بمثابة تأشيرة لدخول جنة العمل والاستقرار والزواج وما إلى ذلك من أحلام بقرة، البقرة التي تحدث عنها الروائي الهرادي.
بحثت عن عمل بالريق الناشف فلم أجد، واجتزت مباريات بلا حصر، املت نفسي دوما بأن القادم أحلى. لم يأت من ذلك القادم غير كثير من المر، وبعض العسل المتأخر نسبيا عن موعده.
وبقدر الفرص القليلة التي لاحت في سماء ذلك الخريج الذي كنته، التف حولي سماسرة الوظيفة من وزارة الإعلام إلى آخر قال لي إنه يمكن أن يضمن لي وظيفة قائد، والمقابل طبعا ملايين السنتيمات التي لم تكن راحة يدي ساعتها قد لمستها في يوم من الأيام.
لعنتهم جميعا في سري ومضيت في طريقي بلا رشوة أو إرشاء إلى يومنا هذا.
أتذكر حكاية “القايد” هذه الأيام نظرا للأضواء الكثيرة التي سلطتها عليهم وسائط التواصل الاجتماعي أحيانا بصواب وآحايين أخرى بلا معنى.
أتذكر قائدين في طفولتي وبداية مراهقتي، بصما سمع الناس وأبصارهم في تلك القرى النائمة على ضفتي نهر سبو، حيث كان للقايد معنى وهيبة وللدرك ما لا يقل عن القائد سطوة وخوفا ورهبة.
القايد العلواني، لم أره لكني سمعت أبي وأهل القرية يتحدثون عنه وعن “حسه الذي ينضج الخبز بلا فرن”.. من فرط سلطاته وقوة شخصيته.
قائد قيادة دار الكداري، قبيلة مختار، اختير لتلك المنطقة في زمن كان المغاربة يهابون السلطة، كل السلطة، إدارية وأبوية وروحية. كان الخوف يختلط بأوكسجين الناس، وكان التوازن حاصلا في سلوك العامة: لا ضرر ولا ضرار، ومن تعدى حدوده وجد “القنب” في انتظاره.
لقد تلقى المغاربة من غير سلك الجندية نوعا من التربية على المواطنة و”العسكرة”.. ورغم كل ما يمكن أن يقال عن جيلنا والأجيال التي سبقته فقد كانت النتيجة مواطنين “ليهم الدوا” ويعول عليهم كمسؤولين عن أنفسهم وأبنائهم.
القايد العلواني كان يفصل في النزاعات بكلمات لا رجعة فيها، والويل لمن خالف أوامره، إلى درجة أنه كان يقدم على اعتقال نصف دوار إن اقتضى الأمر.
لم أره لكني كنت أتصوره أبيض اللون بشعر أسود وجسد ضخم رياضي مع شنب بارز ونظارات طبية وقامة طويلة..لكن جبروته منعني من الرغبة في أن أصبح قائدا.
أما القايد الثاني فهو حسن، وقد جاء إلى ذلك المركز بعد العلواني، وقد كان لقائي به عبر ورقة استدعاء صفراء لأبي لم يثرني فيها غير توقيعه بقلم أزرق.
ولسنوات كنت كلما اشتريت قلما جديدا أجربه بخربشات ضمنها تقليدي لتوقيع القايد حسن الذي حفظته يميني تماما.. وقد أستطيع إلى اليوم رسمه كما هو.
روى أخي أن حسن يختلف عن العلواني ويبدو أكثر لينا من خلال ما سمعت عنه.. مع ميل لمخاطبة مرؤوسيه بالفرنسية حتى في جلسات حكمه بين فلاحي القرى التي تحت إمرته.
اليوم ونحن نعيش مرحلة سطوع شمس مؤسسة “القايدية” يبدو لي من المفيد أن نلقي بالا لهذه المؤسسة الأصيلة في ثقافتنا وبنيتنا السلطوية والإدارية:
ــ هم الأقرب للناس في المدن والقرى، وكل إصلاح أو تعزيز لهذه المؤسسة هو فائدة مباشرة للشعب،سيما أن بينهم اليوم دكاترة في القانون ومجازون في الاقتصاد وعلوم الإدارة، مع قدرة واضحة على التواصل باللغة التي تصل سريعا إلى أذهان الناس.
ــ الحديث عن القايد، أي قايد أو قايدة، لن يكون له معنى إذا أغفلنا الحديث والإنصاف للقاعدة الأساسية التي يعتمدون عليها وعلى أساسها تبني السلطة المحلية قراراتها ورنجاحاتها: أقصد فئة أعوان السلطة من مقدمين وشيوخ، فلا بد من إعادة الاعتبار إليهم، فهم المحرك الذي لا يتوقف، والموظف المضحي بكل شيء في صمت. وأول تكريم لهم يمر من خلال رفع أجورهم ومراجعة إطارهم الوظيفي بما يرفع من شأنهم.
وأقترح على الجهات المسؤولة أن تقوم سنويا وموسميا بتكريم من تميز منهم في عمله، وهي التفاتة ستلاقي ترحيبا شعبيا بلا شك، لأن المقدمين اسم على مسمى، يوجدون في مقدمة كل المعارك: لست أنا من يقول بل نشاطهم في معركة كورونا وديناميتهم في كل حي ودرب وزقاق.
من وحي الطفولة في ذلك الماضي البعيد لن أنسى المقدم ولد الزحاف..ومن واقع اليوم استحضر المقدم الشاب يوسف بسيدي سليمان، وكيف شاهدته بأم عيني”يعرق وينشف” راجلا وعلى متن دراجته، في أيام عمل متعبة دون شكوى أو تذمر.
شكر الله سعي كل من يخدم الوطن، وعسى أن يكرمكم الوطن في حياتكم فأنتم تستحقون.