القدس المحتلة: أحمد الجلالي
على باب مقبرة الرحمة، حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا بتوقيت القدس الشريف،كان الشارع مزدحما بوجوه من شتى بقاع الدنيا: عرب ويهود أوروبيون ولاتينيون وسود وبيض..هي قلب الدنيا وروحها هذه المدينة، بلا شك.
خزنت صورا كثيرة في ذاكرتي البصرية ثم تبعت زملائي إلى باب المسجد الأقصى. وجدت الناس في صفين، ولم أدرك سبب ذلك، غير أني دلفت إلى الصف الأيسر وراء رفاقي في تلك الرحلة، ولم تمض دقائق حتى فتح الطريق سالكا إلى المسجد، وهي اللحظات التي اختلط علي فيها الماضي البعيد بكل حمولته المقروءة والمسموعة والدينية والتاريخية عن القدس باللحظة الحاضرة الملموسة مكانا وزمانا ووجوها وصورا منظورة.
قبل الوصول إلى صرح المسجد العظيم، مررنا بطريق إلى شماله سور تاريخي فيه رائحة الرومان وصلاح الدين والقرون الغابرة عبقا ورهبة وإجلالا..إنه باب الأسباط حيث قرأت بشكل خاطف أسماء الخلفاء الراشدين: علي وعمر وابي بكر وعثمان رضي الله عنهم جميعا.
قبل ذلك وقع بصري على لافتة مشدودة إلى شجرة من ثلاثة جذوع كتب عليها:” إدارة الأوقاف الإسلامية ـ القدس مدرسة ثانوية الأقصى الشرعية للبنين. وكتب تحتها: إعدادي ـ ثانوي”..مع تاريخ التأسيس بالهجري والميلادي الذي يعود إلى أواخر خمسينيات القرن الماضي.
كان يوما حارا من أواسط أيام حزيران، ولقد شعرت بعطش ممزوج بشهية زائدة لشرب الماء، وما أن وقعت عيني على صنابير قبل الوصول بأمتار إلى باحة مسجد قبة الصخرة حتى هرعت إلى الماء كما لو كنت مسافرا عبر الصحراء طلعت أمامه فجأة واحة بظلال وارفة وماء عذب.
غسلت وجهي فشعرت ببرودة غير عادية في ذلك الماء، ثم تناولت إناء سعته حوالي ربع لتر وبدأت أشرب إناء وراء إناء دون عد فشعرت أنها المرة الأولى في حياتي التي تناولت فيها هذه الكمية من الماء..ولشدة غرابتي، لم أشعر بثقلها لا على البطن ولا على سرعة الحركة والمشي، إذ التحقت بالمجموعة فوجدتهم في المكان الذي كانت تعد فيها الخيام لصلاة التراويح، لأن أياما قليلة كانت تفصل حينها المسلمين عن حلول شهر رمضان.
تمنيت لو كانت الظروف تسمح لي للبقاء بالقدس إلى شهر رمضان لأعيش أجواءه، لكن هيهات فالزمن الذي نشتهيه عادة ما يحسب بالدقائق في حياتنا.
تجاوزت مكان الخيام لأجدني وجها لوجه مع صرح مسجد قبة الصخرة بجدرانه التاريخية وقبته الذهبية البراقة..وتاريخها العربي الإسلامي الذي شرحه لنا بتفصيل مرشد فلسطيني متمكن من أدوات اشتغاله إلى درجة أفادنا بعدد كيلوغرامات الذهب الموجود في القبة، وفي عهد أي خليفة شيد المسجد، مع معطيات عن المسؤولية والوصاية الهاشمية على تلك الأماكن المقدسة.
اغتنمت الفرصة وطلبت من زميلي لحسن أن يوثق لي بفيديو، وفعلا كان لي ذلك. في الفيديو الذي أحتفظ به هناك أمران:
ــ أتمشي باتجاه أحد أبواب مسجد قبة الصخرة ثم التقط من ساحته حجرا صغيرا قلت إني سأحمله إلى والدتي رحمها الله لتتخذه “تيمومة”، وذلك ما حصل، ولعله آخر حجر تيممت به في حياتها.
ــ نتمشى إلى حافة الساحة حيت الدرج المؤدي إلى المسجد الأقصى نزولا والمطل على اتجاه باب المغاربة، وهناك ــ والكاميرا شغالة ـ يسلم علينا فلسطيني مقدسي، وما إن عرف أننا مغاربة حتى أشار إلى باب المغاربة وما يعيث فيه الصهاينة خرابا وفسقا. نعم، لقد وصلت الرسالة بألم أيها الأخ في الدين والعروبة والتاريخ: للمغرب مسؤولية ثقيلة تجاه بيت المقدس خصوصا، فلنا في هذه المدينة أحباس كثيرة لا مجال للسكوت بله التخلي عنها مهما طال الزمن ومهما استطالت فترة العلو الصهيوني.
ــ دخولنا مسجد الصخرة الذي كان مليئا بالزوار، ولقد يعجز اللسان عن بهاء جنبات ذلك المسجد العظيم وهندسته. إنه شاهد على العصر الإسلامي المجيد وعلى ماض ضاع أو ضيع بغباء منقطع النظير.ولن أنس تلك اللحظات التي قضيتها في غرفة صغيرة يؤدي بها الزوار ركعتين، ويقال إن النبي الأكرم قد صلى بها.
حوالي نصف ساعة على دخولنا المسجد الأقصى، تفرق الزملاء في ما يشبه الاستراحة والالتزام بالانضباط وبعض البروتوكول ذي الصلة بالوفود في المناسبات الرسمية.
اغتنمت الفرصة لأجول بساحة المسجد الأقصى الرائعة.هنا سور وهناك حجر وضع في ركن منذ قرون.
هنا رائحة صلاح الدين وصليل سيوف الفاتحين المحررين في معركة حطين المباركة، هنا حديد يقاوم التاريخ وعوامل الجغرافيا وهناك ماتزال أصوات أسلافي المغاربة تتردد، ومعها شهادة صلاح الدين فيهم وتمسكه بهم: “أسكنت هناك في مكمن الخطر على القدس حيث الأرض اللينة ، أسكنت قوما يثبون في البر و يفتكون في البحر، أسكنت من استأمنتهم على بيت الله .. أسكنت المغاربة”.
صعدت من أعماق الأحشاء تنهيدة حرى لما أفقت وعدت للواقع: فهذا الباب هو الوحيد المفتوح لكن يمنع على المسلمين الدخول منهم، ومفتوح في وجه غير المسلمين، كما يستخدمه الصهاينة لاقتحام المسجد الأقصى.
الوقوف بساحة قبة الصخرة يمكن الزائر من رؤية واضحة لكثير من معالم القدس العتيقة بصوامعها وكنائسها ومبانيها الضاربة في عمق التاريخ. التقطت صورا كثيرة لها ثم نزلن عبر درج واسع يوصل مباشرة إلى أولى القبلتين: المسجد الأقصى.
كان آذان صلاة الظهر يتردد عبر الأرجاء وصوت مؤذن بنبرات شرقية كلها مدعاة للخشوع والهدوء النفسي الجميل.
الدخول إلى المسجد الأقصى ليس ولوجا جسد إلى مكان، بل يشبه تشابك الروح والجسد مع بعد آخر.تشعر بنوع من “النهايات” وصنف من “البدايات” بينك وبين قلبك. هنا تنتهي الأسئلة وتزول الحيرة. هنا المطار الكوني نحو السماء، هنا الإسراء، هنا الله أكبر. هنا ينتهي الخوف من سلاح غادر أو ظالم كاسر أو عالم متآمر. هنا القدس والمقدسيون والمقدسيات. هنا حيث لا معنى لخوف بشر من بشر. هنا الصبي شبل واليافع أحسد هصور.. والشاب مقاتل جسور..هنا لا خوف إلا من خالق الكون.
وبدأت صلاة الظهر. كنت في الصف الثاني أو الثالث، ولا أدري ما الذي جعلني أصلي مغمض العينين إلى آخر ركعة؟
لعلي كنت دون وعي مني أحاول الانفصال عن هذا العالم، أو الابتعاد والاستقالة من عالمي الشخصي بهواجسه الأرضية الترابية الواطئة..ربما.
بقيت بعد الصلاة حوالي نصف ساعة بالمسجد الأقصى، وفي لحظة تذكرت أشخاصا دون غيرهم: أخي أبوالعيش المولع بفلسطين قبلي بعقدين وأستاذي المثقف المربي عبد السلام الشرقي، وابنته إيمان، وهي بعد صغيرة جدا تقرأ لي:
“يا قدس معذرة و ليس مثلي يعتذر
مالي يد في ما جرى فالأمر ما أمروا
و أنا ضعيف ليس لي أثر
عار علي السمع و البصر
و أنا بسيف الحرف أنتحر
و أنا اللهيب و قادتي المطر
فمتى سأستعر؟
لو أن أرباب الحمى حجر
لحملت فأسا دونها القدر
هوجاء لا تبقي ولا تذر
لكنما أصنامنا بشر
الغدر منهم خائف حذر
و المكر يشكو الضعف إن مكروا
فالحرب أغنية يجن بلحنها الوتر
و السلم مختصر ..”
أفقت وعدت من مكان بعيد جدا ثم خرجت من المسجد وألقيت على داخله وعلى محرابه وعلى الحيطان والزرابي وكل تفاصيل المكان نظرات فاحصة تسجيلية أودعتها مكانا قصيا وسحيقا من ذاكرتي وقفلت عليها هناك، ومنها استخرج لكم كتابة هذه الصور واللحظات.
وجدت الرفاق متحلقين في مجموعة بمكان يقع في الساحة ما بين المسجدين: مسجد قبة الصخرة وأولى القبلتين. هناك قرأنا البيان، بيان مؤتمر اتحاد الصحافيين العرب، دورة فلسطين. في البيان ثمن مدبجوه جهود ملك المغرب، محمد السادس، بصفته رئيس لجنة القدس. هنا لمحت إشراقة على وجه الزميل عبد الله البقالي..
فقلت في نفسي: جميل أن يذكر المغرب وملكه في هذا المكان وهذا الموقف، وعقبى لانتصار حقيقي نكون فيه نحن المغاربة مرة أخرى، بنفس قدر وقيمة أجدادنا، من حمل “باب المغاربة” اسمهم وعزهم.
بقراءة البيان كان المؤتمر عمليا انتهى، والهدف قد تحقق لنا كوفود عربية متضامنة، وللجانب الفلسطيني إعلاميا وسياسيا، بربح يقوي فك الحصار عن أشقائنا..لكن فلسطين التي إليها أتيت لم تنته في هذا الحد.ففي حين كان الوفد يتهيأ لمغادرة المسجد، كانت أصوات بداخلي تأمرني بالتجول في كل متر من المسجدين.ألمس هذه الصخرة، وأضع وجهي على هذا الركن، ثم أشم رائحة الأمكنة. لست أدري إن كنت ألخص القدس كلها في روائح وصور لأخفيها في أعماقي مخافة أن تضيعن أن يستفيق العالم يوما ما فلا يجد هنا مسجدا ولا قبة ولا ساحة ولا باب مغاربة ولا كنائس..فعلا لا أدري.
كنت آخر المغادرين ومع خروجي كنت ألتفت بعد كل خطوتين..أنظر، أتأمل، أمعن النظر في تفاصيل الأرض والطريق والشجر والحجر..وأقبض على الزمن لحظة لحظة..وأقول يا زمن الظلم والاحتلال توقف.
www.achawari.com