أحمد الجَــــــلالي
نعم إنه الملثم، ذلك الاإعلامي الحربي من طينة نادرة. جنرال؟ أي والله، أبو عبيدة جنرال عن استحقاق وجدارة وبلا منازع. من لديه اعتراض فليذهب عند أقرب طبيب عيون ليصحح بصره.
فإذا كان من ضمن كوادر السلطة الفلسطينية في رام الله، المستسلمة للتنسيق الأمني المقدس منذ عقود، ألوية بنياشين ملمعة عريضة فلم لا يستحق شاب شغل العالم لقب جنرال..أو الجنرال الملثم إن شئتم الدقة.
فمنذ اليوم الأول لانطلاق شرارة الطوفان خرج إلى ساحة الإعلام العالمي الشاب الملثم يخاطب الدنيا بصوته دون ملامح، ولكن من تحت ستار اللثام تشع عينان تمنى مليارات البشر أن يروها على طبيعتها.
وخارج كل ما تواضع عليه أكاديميو الإعلام الحربي شرقا وغربا، صنع أبو عبيدة لنفسه مجدا سيبقى مخلدا في تاريخ القضايا العادلة. وهل على الأرض أعدل من قضية شعب فلسطين الأبي الكريم المظلوم؟
لكي تصل الرسالة الإعلامية إلى الجمهور المستهدف في زمننا هذا هناك ترسانة من الآليات تتطلب ملايين وملايير الدولارات من كادر بشري وتقنيات عالية الجودة وما إلى ذلك.
غير أن أبا عبيدة وصحبه حققوا أكثر من المتوقع ــ وفي ظروف قاهرة ــ بوسائل يتوفر عليها أي مراهق ابن أسرة من الطبقة المتوسطة في إحدى حارات البيضاء أو القاهرة أو دكار بالسنغال.
فما هي الأسرار وراء هذا النجاح المبهر؟
ــ إنه الإيمان بالقضية وبالفعل الإعلامي المقاوم كسلاح فتاك في حرب ظالمة تحالف فيها كل شداد الآفاق والمرتزقة من عالم أضاع ضميره في طريق الغدر واالخيانة.
ــ إنها الموهبة الفلسطينية التي تفتقت في مناطحة المستحيل وصنع السلاح تحت الأرض وهندسة مدن تحت الأرض حيرت العدو ومن عاضده وسخر له بسخاء كل تقنيات التجسس والاستخبار ففشلوا جميعا في حل شيفرة الأنفاق/اللغز المعجرة.
ــ ثم إنه ، اختصارا، الصدق الذي يخرج مع كلمات عربية بلسان فصيح بليغ يصل إلى العقول والقلوب مباشرة. وتلك هندسة ربانية فريدة في تيسير وصول الصادقين إلى شغاف قلوب من يستمعون إليهم.
ومن خلال عمليتي تسليم أسيرات الاحتلال الأخيرتين، سيما الثانية منهما، تأكد احتمالات: إما أن في المقاومات فريق بلا عد من “أبي عبيدات” الإعلام أو أن أبا عبيدة أسس مدرسة حقيقية للإعلام الحربي وتخرج منها دكاترة حقيقيون خلال 15 شهرا من عمر “طوفان الأقصى”.
وزيادة على التنظيم العسكري و الأمني والشعبي بقلب غزة، وليس في خان يونس، برزت العبقرية في أدق التفاصيل التي تخللت سيناريو محكما يقينا تم الإعداد له بعقول تعي ما تصنع وتعرف جيدا إلى ماذا ترمي برسائلها للداخل الفلسطيني وللداخل المحتل ثم للعالم.
لا أتحدث هنا عن التوضيب ولا باقي التقنيات المتاحة للجميع تقريبا، بل أشدد على مضمون الصورة من المنصة التي اعتلتها الأسيرات وما كتب عليها وتحتها من رسائل بالعبرية والعربية، مرورا برقي التعامل مع الأسيرات وشكلهن ولباسهن و “الهدايا التذكارية” في أيديهن، وليس انتهاء بما نطقن به من عبارات بالعربية العبرية المكسرة.
وقد كان لافتا قدرة أبي عبيدة على تحريك الجماهير كلما أطل في بلاغ للمقاومة، وفي لحظة من اللحظات غطى حضوره على كل قادة ورموز المعركة، وصار القلق على غيابه أحيانا أمرا مؤرقا للعرب و المسلمين وأحرار العالم على حد سواء.
وفي خروجه بُعيد إعلان الصفقة صارت الأعناق تشرئب لمشاهدته مع التوثب إلى معرفة من سيشير إليهم بالشكر أو اللوم، ذلك أن هذا المدفع الإعلامي العابر للقارات أصبح مصدرا موثوقا في منح التزكيات.
ومثال ذلك تلك الفرحة العارمة التي عمت المغرب وشماله تحديدا، وطنجة على الخصوص حينما ذكرها الناطق الملثم باسم “القسام” فنزلت كوشاح ذهبي على رؤوس أهالينا بمدينة البوغاز.
ولست أدري أية مشاعر اجتاحت مناطق أخرى نالها مديح أبي عبيدة بعبارات أطول وتوقف أثقل عندها.
وعندما أتابع البلاغات المصورة لهذا الرجل الملثم يحضرني أمران:
الأمر الأول يتعلق بوزير الإعلام على عهد صدام حسين، الصحاف الذي شغلنا قبل 22 سنة قبل وعند سقوط بغداد، وكيف أدخل إلى قاموس تداولنا مفردات كانت أشهرها كلمة “العلوج” في إشارة إلى الأمريكان. طبعا مع فارق ضخم بين الصحاف وأبي عبيدة حضورا وقوة ومصداقية.
الأمر الثاني، حينما أشاهد أبا عبيدة الملثم أفكر ــ وبي رغبة في البكاء ــ في حال الإعلام العربي من المحيط إلى الخليج وكيف تصرف عليه ملايير الدولارات بلا فائدة ولا مفعول.
ثم أسأل نفسي: بعد طوفان الأقصى ألم تفكر الأنظمة والحكومات العربية ولو مرة في تشحيم ماكيناتها الإعلامية بمادة المواهب البشرية والكفاءات التي لا تحتاج إلا إلى ربع ما يرصد من ميزانيات مع مساحة كبيرة من الحرية؟
وبتعبير آخر، بأي وجه سيخرج وزراء الإعلام العرب والناطقون باسم الحكومات ليتحدثوا إلى الصحافيين في الندوات ومن خلالهم إلى الرأي العام الوطني في كل بلاد على حده؟
والحديث عن ضرورة تقوية الإعلام في بلداننا ليس مطلبا للترف بل هي ضرورة قصوى من خلالها يصنع الرأي العام وترص الصفوف في الجبهات الداخلية للأمم استعدادا للأزمات في زمن طغيان لا يرحم أي ضعيف.
والدليل على أن سلاح فتاك وحاسم ما صنع إعلام “القسام” وسط حملات مسعورة استهدفت المقاومة وأداءها واختياراتها من القريب قبل البعيد. لقد تداعت كل ذئاب وثعالب الدعاية السوداء على الشعب الفلسطيني وأبنائه في غزة بكل أساليب التضليل والتشويه والتحريف والتحقير والترهيب لكل من حاول التغريب خارج سربهم.
ولكم نسجوا من حكايات وروايات محبوكة تصعب على عقل الشيطان نفسه فكان يكفي أبا عبيدة أن يطل لبضع دقائق حتى يرتد السحر على السحرة كلهم. وبالمناسبة، فالمادة الإعلامية التي توفرت للآلة الإعلامية المقاومة كانت
استثنائية من وسط جحيم النيران برا وجوا وبذلت في سبيل توثيقها أرواح زكية.
ومن باب بعض الخبرة التي تراكمت لدي على مدى سنين ليست قصيرة، أراهن على أن المقاومة تجمع لديها كنز من الصور/الحقائق وهي ذخيرة سوف تحدد الوقت المناسب لتوظيفها في قصف العدو لاحقا.
“ماهموني غير الرجال يلا ضاعوا…لحيوط يلا رابو كلها يبني دار” عبارة طلعت من لسان الغيواني الأول بوجميع رحمه الله ذلك الفانوس الفني الذي انطفأ مبكرا وكان قلبه فلسطينيا بعد أن قضى وقتا في باريس حيث تعرف إلى القضية عن طريق محمد بوضية الذي كان يخدم الثورة الفلسطينية، هو الذي نصح بوجمعة أحكور بالنضال في سبيل فلسطين عن طريق الفن. ولو عدتم لأشرطته الأولى ستجدون أنه أول من أدخل القضية إلى الربيرتوار الفني المغربي: واشنو ذني يافا وحيفا وكعا…ياك ثقلوا ما خفوا ياك عكبونا وكلفوا..وا ديني يا ديني…” وغيرها الكثير الذي تبلور لاحقا بعد رحيله في: عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها..
مضمون هذه الأغاني ينطبق على حال غزة التي بقدر ما تهدمت بيوتها أحدثت شرخا قاتلا وساما داخل جسم الكيان وستظهر تشققات في أوصاله بفعل آثار الطوفان الذي هد كل سردياته وعراه أمام الأمم وصار قادته مجرمين رسميا ملاحقين من المحاكم الدولية، ناهيك عن الهجرة المعاكسة وخراب الاقتصاد وكساد السياحة وإفلاس الشركات وتراكم الديون.
“ماهموني غير الرجال يلا ضاعوا”…نعم استشهد الألوف لكنهم لم يضيعوا وبعد أن توقفت النيرات خرجت أضعافهم من تحت الأرض بلباس أنيقة مكوية وثقة في النفس والحركة معلنين للعالم وللكيان المجرم عن “اليوم التالي الحقيقي” في غزة.
بلا شك فقد استفادت الشعوب من درس غزة وسيكون له مفعوله في الجيل الصاعد، ولكن بم يمكن أن تستفيد الشعوب العربية من غزة التي لديها ما تقدمه من خدمات وإن كانت في حاجة لكل أنواع المساعدات حاليا.
ليس سرا أن دولنا العربية تجل الخدمات الأمنية وتعتبرها أولوية، وأنا أقول إنها كذلك: الخبرات الأمنية والعسكرية ليس أقل أهمية من الخبرات العلمية والأموال الطائلة.
وعليه، يا دولنا، تعالوا لنأخذها بالعقل والمنطق والواقع:
ــ تريدون جهة تستفيدون منها عسكريا وأمنيا، صحيح؟
ــ نعم صحيح
ــ مستعدون لدفع الأموال الطائلة..
ــ بلا شك وبسخاء أيضا
ــ ما شروطكم؟
ــ أن يكون الطرف المستفاد منه قويا جدا
ــ هذا حقكم، طبعا، اعطوني مثالا.
ــ مممم..إسرائيل
ــ ولكن إسرائيل لم تعد قوية بل لم تكن قوية هي فقط سحرت أعين العالم.
ــ كيف؟
ــ الكيان ومن ورائه كل الغرب من أمريكا إلى بريطانيا وفرنسا وكل الشلة التفوا بعتادهم وخبراتهم حول معبودتهم تل أبيب وفشلوا في القضاء على المقاومة طيلة قرابة سنة ونصف…صحيح؟
ــ نعم صحيح.
ــ “الضعيف” الذي لم يستسلم للعالم كله في حرب عالمية حقيقية ولم ينكسر ولو يرفع الراية البيضاء..هو الجهة الأقوى حاليا…أنصحكم بحكومة غزة ووزارة دفاعها…استفيدوا منها من أجل مصلحتكم وتعاملوا معها ولو براغماتيا..والأهم أنها لن تسلمكم سلعة “خبرات” فاسدة..تعلموا منها ما يقويكم حتى لو كنتم لها كارهين…بركوا على أنفسكم وقضيوا الغرض..هناك خدمة بعد البيع إن شئتم..هذا ظني وأنتم أدرى في هكذا أمور.
**** **** ****
#رصي_راسك_فأنت_في_الشوارع