من قلم: أحمد الجَـــلالي
في المصالح الاقتصادية والمالية والعسكرية ليست هناك عواطف على الإطلاق. إن ضعفت أكلوك وانتهى الأمر ولن يكون لك بواكي..(من البكاء وباكيتات الفلوس الصعبة بالمعنيين معا)، هذا من وحي قرار محكمة العدل الأوروبية.
وفي علاقة المغرب مع الاتحاد الأوروبي في الجانب الاقتصادي، وعلى رأسه السمك والخضراوات هناك مجال لكثير من المجاملات الصفراء ولكن لا مجال للأحاسيس والأخلاق.
إنهم يستفيدون من ثرواتنا السمكية والفلاحية بأسعار بخسة مقارنة بقيمتها في باقي الأسواق العالمية. وقد عشت في أوروبا الغربية وأعرف تماما أسعار كثير من المواد الغذائية الآتية من المغرب وأحسب الفارق ومن ثمة أقدر بكم اشتراها الأوروبيون، دون أن أنسى ثمنها من أحقر أسواق بلادي ــ كسوق الحفرة ــ إلى أرقاها في العاصمة الرباط والبيضاء وطنجة وأكادير.
وقد صار الحكم الذي نطقت به محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقية الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي حديث الساعة. وفي أقل من ساعة من صدور القرار جاءت ردات الفعل من عدد من الدول الأوروبية المؤثرة وفي مطلعها فرنسا وإسبانيا لتجدد التوكيد على العلاقات الاستراتيجية مع الرباط.
يا سلام سلم ثم سلم ولا تمل أبدا من التسليم.
الحكومة الفرنسية والإسبانية تتحدثان كما لو أن المحكمة التي نطقت بالحكم توجد في الواقواق وليست أروبية.
يدلون بالتصريحات التي يراد لها أن تطرب صناع القرار في المغرب كما لو أن المحكمة الأوروبية تنتمي لمعسكر خصم ومعاد للغرب.
إنها قمة الابتزاز والخبث الأوروبي الذي فهمناه ليس فقط من كتب التاريخ وإنما عبر المعايشة طيلة عقود من أعمارنا. إنهم وسخون وأبناء أرندلي، وعلى هذا الأساس يحب أن نعاملهم.
ثم إني أجهل لماذا ينبغي للمغرب أن ينزعج من هذا القرار اقتصاديا وسياسيا:
ــ سياسيا: لم تربح الجزائر وصنيعتها عصابة بوليساريو سوة بضعة أيام من استغلال الخبر في بروباغندا صارت مفضوحة وليست ذات تأثير مثل بارود تبولت عليه أطفال الحي.
ــ اقتصاديا: كل ما هناك أن الأمر يتعلق بسلع يستفيد المغرب من تصديرها لجلب العملات الصعبة وإنعاش خزينة الدولة. ألا توجد أسواق غير أوروبا يا عالم؟ هل تقلص سكان الصين إلى 20 مليونا مثلا أم أن أفريقيا التي هي امتدادنا الطبيعي قفلت في وجهنا الحدود؟
فلينوع المغرب أسواقه، ولكن قبل أي تنويع دعونا نأخذ من ثرواتنا السمكية والخضر ما يكفي السوق الداخلية، وهو الإجراء الذي من شأنه أن يؤدي إلى إهماد نار الأسعار التي أحرقت القدرة الشرائية للمواطن المغربي النازل رأسا تحت عتبات غياهب الفقر الأسود.
إنه لمن العار أن يتمتع الأوروبي بسمكنا بينما “لمخير فينا” أمسى يحلم بالسردين أو شقيقتة “كابايلا”. إنه لمن الشنار أن تتجه قوافل خضرنا إلى الأسواق الدولية بينما تأتي مناسبات على السوق المغربية تصبح فيها أثمان اليقطين والفلفل والطماطم بأزيد من 2 يورو للكيلوغرام الواحد في بلد فلاحي إسمه المغرب.
تأملت جيدا بلاغ الخارجية المغربية بمناسبة قرار المحكمة الأوروبية واستوقفتني فيه جملة “المغرب غير معني بتاتا”. يا ناس، إن كنتم غير معنيين بتاتا فتصرفوا على هذا الأساس تماما.
كيف؟
القضية كلها في “الكيف” بكاف مفتوحة وليست مكسورة، مثلما أن القضية كلها عند الفنان عمر السيد في “الطاقية”. جوابا عن الكيف: دعونا نرفع شعارا جميلا: خيرنا ما يديه غيرنا وحوتنا أولى به خوتنا….ثم أغلق الباب بإحكتم.
بعيدا عن حريق الدماغ نتيجة سياسات تتصرف بعيدا عن متطلبات ومآسي المواطن، وتسير بمنطق كأن الحد الأدني للأجور بالمغرب لا يقل عن 10 آلاف درهم، وكما لو كان للمعطلين منح شهرية ريثما…وللمسحوقين إعانات ومرتبات ذات قيمة من مالية الدولة، آخذكم إلى طفولتي التي بصم السمك صفحة معتبرة من فصولها.
أكرمني الله سبحانه وتعالى بأن كان مسقط رأسي في نقطة جغرافية بمنطقة الغرب حيث توجد أقصر مسافة بين نهر سبو العظيم وبهت البهي. بينهما، حيث كانت قريتي، ما لا يزيد عن كيلومتر ونصف فقط.
وهذا كان يعني لي ولكل سكان تلك القرى القريبة من النهرين أتقان السباحة مبكرا والتمتع بخيرات سبو وبهت من السمك.
فتحت العين أواسط سبعينات القرن الماضي على سمك “الشابل” الأبيض الجميل وقد استمتنعا به مشويا ومطبوخا…لذته ما تزال تحت اللسان.
في الذاكرة صور مراكب جيراننا من “العثامنة” وعلى متنها رجال أقوياء يجوبون سبو وينشرون شباكهم..وفي الصباح الباكر يكون جني “الحيوانات البحرية” التي كانت تدهشنا وهي تتقافز بين الشباك حية طرية.
في المخيلة صورة “بناصر” وهو مقرفص على جرف سبو ويده مجمدة ماسكة بصنارة إلى أن “تغمز” فيرفعها برشاقة لتستقر جنبه..وفي ذلك كان خير كثير أكلا وتجارة.
وعلى ضفة بهت أتذكر ذلك الرجل العجوز الوقور جالسا تحت شجر الرمان الوارف وكيف كان السمك تحته يسبح بغزارة وهو يصطاد السمكة تلو الأخرى في استمتاع لا يخفى.
ولأن الطفولة لابد أن يتخللها تقليد فقد قلدت بناصر وبا ادريس رحمهما الله وصنعت لنفسي أزيد من 7 صنانير وجعلت منها أسطولا محترما لفريق عمل شكل مني ومن أشقائي.
كانت “الغزوات” مباركة في كل من سبو و بهت..فوق ذلك العشب الطبيعي بجوار نبات الخروع الأخضر الجميل. كنا نحب الصيد بعد العصر، خصوصا في غياب الوالد، يدركنا ظلام الليل فقفز صور الأشباح والجن من رؤوسنا الصغيرة فنلملم “تلك البركة” ونعود لخيمتنا سالمين غانمين.
إنها حكاية طفولة ولكن دعونا نسقط أبعادها على الواقع المغربي وعلى قرار ما يسمى محكمة العدل الأوروبية :
سبو هو المحيط الأطلسي، وبهت أخوه هو الأبيض المتوسط، وأنا وإخوتي هم الشعب المغربي.
أكلنا حوتنا من مائنا…لا الماء جف ولا السمك انقرض.
“الشابل” انقرض فعلا ولكن ليس على يدي ولا يد بناصر ولا صيادي العثامنة..دمرته قوى الشر التي لم تجد من يحاكمها.
سقى الله أيام الشابل وجعل لنا في ما تبقى من ثرواتنا بركة وكفاية.
دعونا نستفيد من خيراتنا ونحقق العدل بيننا..لأن العدل الأوروبية وجدت لظلم الضعيف وليس للضرب على يدي الجشع المعتدي المبتز.