أحمد الجـــَــلالي
بينما بدأت منزلة الليالي قاسية البرودة منذ الـ 25 من ديسمبر الحالي، وفي حين تجلت مأساة زلزال الحوز ومعاناة أهالينا من مخلفاته ضرب المغرب زلزال جديد ناعم سمي بالزلزال القضائي، في سياق بركان قضية البارون المالي الملقب ب”إسكوبار الصحراء” وما أسقط خلفه من رؤوس كثيرة وحيثان جبارة.
وفي وقت استفاق فيه مغاربة منطقة الزلزال من هول ما حصل معهم بالكاد يحاول الشعب المغربي كله أن يفرك عينيه ليصدق أن اعتقال شخصيات كبيرة وإيداعها سجن “عكاشة” حقيقة وليست أضغاث أحلام.
هذه الواقعة التي يتمنى ملايين المغاربة ألا يكون لوقعتها “مخرجات” كاذبة في نهاية المطاف كما قصص السنوات الخوالي، جعلت المحللين بالكاد يلملمون شظايا المعطيات التي قد تسعف في تقديم قراءة منطقية لكل هذا الذي يحصل.
عموما لم يخل تاريخ مغرب الحسن الثاني من حملات ومحاكمات، وفي ذاكرة المغاربة منها الكثير إلى يوم الناس هذا. غير أن المغاربة، ولكثرة المناسبات التي خرج منها من حوكموا سالمين أو بقيت ملفات وصكوك اتهام الكثيرين تروج سنوات بردهات المحاكم إلى أن نسيت ثم طويت، أصبحوا لا يراهنون كثيرا على أحكام قضائية تعيد تربية الخارجين عن القانون.
ويوجد حاليا في القلب من واقعة ذيول قضية “المالي” مواضيع من صميم السياسة والتدبير والشفافية والعمل الحزبي وتنظيمات المجتمع المدني. والأسئلة الأكثر إحراجا اليوم كثيرة ومنها:
ــ وفق أية معايير يتم استقطاب البعض لمراكز القيادة لدى الأحزاب، بوابة الوصول إلى المسؤوليات الحكومية الحساسة؟
ـــ كيف ظل المشتبهون يسرحون ويمرحون وينالون الصفقات الضخمة ويتبوؤون مهام الصف الأول رغم الشبهات التي أثيرت بحقهم؟
ــ ما سقف الأحكام المنتظرة وفق صك الاتهام وإلى أي مدى يمكن أن يصل سقوط أحجار الشطرنج “الاسكوباري؟
ـــ إذا كان المغرب يعاني ازمة مالية اقتصادية خانقة ويراكم المديونية بشكل مخيف فما بال المتابعات لا تطال التهرب الضريبي الكبير لحل هذه المعضلة التي باتت تهدد السلم الاجتماعي؟
ــ مادام الفساد المالي بصفة عامة يلتهم سنويا خمسة بالمائة من الناتج الداخلي الوطني فمن يكون هذا الفساد لكي يتخفى عن أجهزة الرقابة ومؤسسات المحاسبة ويربي الأكتاف متحديا دولة عمرها أزيد من 12 قرنا؟
نعرف جيدا أن النصيري وبعيوي ومن معهما مازالوا أبرياء ويتمتعون كمواطنين بقرينة البراء، كما نعي أن السكاكين تكثر عند سقوط “البقرة”، وندري تماما أن المنتفعين من وراء المعتقلين كثر ولعل كثيرا منهم أخذوا منهم يتبرؤون ومنهم يفرون كما هي عادة فصيلة “بوكاميلة”، لكن فلسفة القضية برمتها لا يجب أن ينظر إليها بمقياس شخصي.
القضية في عمقها في هذا الوقت يجب أن يلخصها السؤال التالي: متى وكيف نحارب سرطانات الفساد في أوصال مؤسساتنا، السرطانات التي تقتل الحاضر و الأمل في المستقبل؟
إن المجهودات الجبارة التي يبذلها الشرفاء النزهاء في صفوف الأمن والدرك والقضاء، والميزانيات الهائلة التي تصرف على مؤسسات الحكامة تذهب سدى عندما تقترب نار القضاء من أجساد الفسدة فيرش عليها ماء لا ندري من أين يأتي فينجون ثم يعودون لممارسة هوايتهم الأثيرة: سيدي قاسم/قاصم قدوتنا ومذهبنا.
بئس الطريق وبئس المذهب مذهبهم.
من باب ذكر فليس خافيا أن ملك البلاد غير ما مرة، وفي خطابات رسمية، انتقد حد التقريع ممارسات المسؤولين والمنتخبين وفجر في وجوههم السؤال التاريخي المقدس:أين الثروة. واليوم صار دينا في رقبة النيابة العامة والقضاء عموما والمخابرات أن يوفروا لأمير المؤمنين، ومعه شعبه الوفي العزيز، جوابا شافيا حول هذا السؤال. ومن واجب الدولة كلها، كرمى لرئيس الدولة، أن تعيد الأموال المنهوبة من الخارج إلى خزينة الوطن.
هل هذا كثير؟ لا نظن، إن توفرت الوطنية الصادقة والعزم الكافي.
ومن قبيل المفارقات الاستثنائية أن يشكو رئيس الحكومة ضيق ذات اليد في ملف التعليم بينما يجلس جنبا إلى جنب في المجلس الحكومة مع وزيره في العدل الذي سبق أن طالبه بإعادة 17 مليار دهم قبل الاستيزار الذي أصابه بالزهايمر في هذه القضية وحدها وليس من دونها نسيان لأي أمر آخر.
سادت مغربنا ظواهر سياسية وثقافية واجتماعية لا يمكن لها مجتمعة سوى أن تلد مغربا مشوها في المستقبل. ولكي لا تعيش الأجيال الصاعدة في بلد عريق يصبح مسخا على قوى المعقول والإصلاح أن تتكاثف لكي تمنع ولادة هذا المخلوق المخيف.
وفي الإصلاح العميق لدواليب الدولة وتنظيف مؤسساتها من عوامل الفساد و الإفساد توفير لعوامل بقاء الدولة واستمرارية النظام السياسي الذي التحم مع التاريخ والجغرافيا و الانسان المغربي كما يلتحم اللحم والاوتار والعضلات مع عظام الجسد فتصبح الحركة رشيقة وانسيابية ويؤدي الجسم وظائفه بلا عراقيل.
لا مجازفة أني بالنظر إلى الحال الراهن، انتهيت آسفا إلى أن الطبيب المداوي للمغرب العزيز قد استنفد كل المراهم والعلاجات البديلة ولا مناص له في النهاية من آخر الدواء: الكي.كي الفساد المالي و الإداري معا.
بلدنا بحاجة ماسة إلى كي أماكن الأورام وبتر الأعضاء الفاسدة، والأهم إلى كي الوعي كي “يصحصح” البشر والشجر والحجر فيصرخون: لا مكان في بيتنا للفاسدين.