القنيطرة المغربية: من هنا مر الفرنسيس و الأمريكان..كان يا ما كان

ماذا بقي من "حلالة" اليوم غير الأنين تحت وطأة الإسمنت؟

 

مرت مدينة القنيطرة المغربية بتجربة استعمارية تفردت بها عن باقي المدن الأخرى، لسبب بسيط ومعقد في الوقت نفسه، وهو أن مدينة الولي الصالح «سيدي العربي بوجمعة» مر منها الأميركيون والفرنسيون وكان عليها أن تتفاعل مع ثقافتين وحدتهما أهمية الموقع الاستراتيجي والطبيعي للمغرب خلال سنوات الحرب الباردة.

وفي حين بقيت بعض آثار الوجود الفرنسي ماثلة إلى اليوم بالمدينة، تلاشت بصمات الوجود الاميركي، إلا من بقايا يمكن تعقبها من خلال الروايات الشفاهية وبعض الصور في الحانات والنوادي التي كان يرتادها الاميركيون.

ومن بين ما تركه الأميركيون، ثمة مكان لا يكاد يعرفه حتى أبناء المدينة أنفسهم، يتعلق الأمر بقبر الجندي المجهول في مدخل قصبة المهدية، بجانب تمثال لسمكة وضعت شعارا لوجود المرسى البحري بالشاطئ، وسبب وجود هذا القبر، برأي محمد بلاط، أستاذ التاريخ ومهتم بأحداث القنيطرة، يكمن في المواجهات الضارية التي شهدتها قصبة المهدية بين الفرنسيين والأميركيين بداية الأربعينات من القرن الماضي.

كان الوجود الأميركي محدودا في القاعدة العسكرية المتاخمة للمدينة، لكن ذلك لم يمنعهم من الاحتكاك بالسكان، من خلال الانخراط بالنادي الرياضي القنيطري وارتياد بعض النوادي، ومنها «نادي الكونتيننتال»، المعروف بـ«لولو» الذي ما زالت صورة وحيدة للجنود الأميركيين، وهم يرفعون علم بلادهم، ملتصقة بجدرانه، بالإضافة إلى مطعم «الإلدورادو» حيث صور بالأبيض والأسود لفناني أميركا خلال عقدي الستينات والسبعينيات. حدث الاندماج وحصل أيضا التزاوج بين الأميركيين والمغربيات إلى درجة أن جيلاً من أبناء المدينة يوجدون اليوم بالولايات المتحدة. ومن الذين لم ينسوا المدينة، هناك طبيب أميركي، يشتغل لدى منظمة «اليونيسيف» عاد إليها بمناسبة حملة مغربية للتلقيح، وفاء منه لتاريخ مشترك.

عدا ذلك، لم يبق من هذه الحقبة الاميركية شيء ذو بال، في غياب أي توثيق ينفع الدارسين والمهتمين. وخلال الأيام الأخيرة، والمغرب يحتفل بذكرى استقلاله الخمسين، تحولت المدينة إلى كائن ليلي وخرج سكانها، رغم البرد القارس الذي تعرفه منطقة الغرب في مثل هذا الشهر من كل سنة، إلى الشوارع وولوا وجوههم صوب ساحة البلدية لمتابعة سهرة اصوات وأضواء التي نقلت على الأثير مباشرة في مختلف المدن المغربية وتابعها المواطنون في ساحات المدن على شاشات ضخمة. كانت الذكرى الذهبية لاستقلال المغرب عن الاحتلال الفرنسي فرصة للنبش في تاريخ المدينة المرتبط بالوجود الأجنبي في كثير من جوانبه.

مع بداية القرن الماضي لم تكن القنيطرة شيئا يذكر، اللهم عدد من المساكن المتواضعة متناثرة هنا وهناك، وفلاحون يأتون إليها من المناطق المجاورة إما لبيع بعض بضائعهم أو التزود بسلع لا توفرها الأسواق القروية الأسبوعية. الامتياز الوحيد الذي كانت تعرف به القنيطرة هو تلك القنطرة الخشبية التي نصبت على نهر سبو، لتكون جسرا يربط القصيبية (تصغير لكلمة القصبة) بباقي القرى والمداشر. الصور القليلة التي ما زال يحتفظ بها بعض المهتمين بتاريخ المدينة توضح طبيعة الأنشطة الاقتصادية التي كانت تعرفها آنذاك. ومستوى ونوعية العمران السائد، وشكل الشوارع القليلة. وفي عشرينيات القرن الماضي دار الزمن دورته فوجد المكان نفسه مجبرا على التحول القسري، حينما جاء المحتل الفرنسي ليجعل من القنيطرة منطلقا لحلمه بإنشاء «ميغالوبوليس» يصل منطقة الغرب، ذات الأراضي الفلاحية الشاسعة والخصبة، بمدينة الدار البيضاء عبر ميناءي القنيطرة والبيضاء.

بدت فكرة المارشال ليوطي، المقيم العام الفرنسي آنذاك، بتأسيس مدينة تنتشر على ضفة المحيط الأطلسي من القنيطرة إلى البيضاء ضربا من الخيال. وبما أن تشييد ميناء كان أبرز عمل بدأ بعد الاستعمار الفرنسي، أصبحت القنيطرة تدعى «بور ليوطي» أي ميناء ليوطي. ولعلها التجربة الوحيدة في القارة الأفريقية بأسرها التي استغل فيها التقاء نهر بالبحر لانشاء ميناء نهري يتميز بقدرته على استقبال بواخر محملة بآلاف الأطنان قادمة من كل القارات، التقاء فسح المجال لنوع من الأسماك التي انقرضت تماما أو رحلت عن واد سبو. إنه سمك الشابل ابيض اللون ذو المذاق اللذيذ.

تجربة القنيطريين مع الاستعمار المزدوج مكنتهم من الاحتكاك أيضا بثقافتين في وقت واحد. ويجد الزائر للقنيطرة إلى اليوم من يحدثه عن تلك الأيام الخوالي حين غزا الاحتلال الفرنسي هذه الجهة من المغرب وسمى سكانها بـ«الأهالي»، ولم يكن مسموحا لهم في المساء بتجاوز مكان يوجد فيه اليوم المعهد الثقافي الفرنسي «بالزاك».

وإذا كان البعض حين يريد التندر بأبناء المدينة ينعتهم بـ«أبناء الأميركان»، في إشارة إلى الحالات القليلة من الزاوج التي حصلت بين النساء المغربيات والأميركيين آنئذ أو العكس، فإن من يعرفون تاريخ المدينة الطبيعي يسمون أنفسهم طواعية «أبناء حلالة»، وفاء منهم لتلك النبتة التي كانت تسود الغطاء النباتي المميز للمجال الطبيعي في الماضي، والتي أفرد لها الزجال القنيطري، عبد الرحمن فهي قصيدة طويلة ضمنها احتجاجاته على الفرص الضائعة التي فوتها عديمو الضمير على المدينة. وحين كانت المدينة تعرف نهضة كروية حقيقية مع فريقي النادي والنهضة القنيطريين منذ عشرين سنة، وكان الجمهور الزائر للقنيطرة يهتف بمناصري الفريقين القنيطريين «حلالة، حلالة» كان هؤلاء يردون «والله رجالة». لكن يبدو من الصعب على المؤرخين حصر شهامة أبناء المدينة في الكرة فحسب، إذ أن خلايا الحركة الوطنية في المدينة كانت من بين أولى الخلايا التي تأسست في المغرب لبدء المقاومة المسلحة ضد المستعمر الفرنسي، وما زالت ساحة الشهداء في حي «ديور صنياك» (اسم أحد المعمرين) شاهدة على الدماء التي سالت من أجل تحرير البلاد، وهي الحوادث التي خصص لها المقاوم عبد الجليل البوصيري كتابا عنونه بـ«أحداث ورجالات حلالة»، حيث يقف الرجل بالتفصيل على عمل النشطاء الوطنيين والتعذيب الذي لاقوه على يد الاستعمار والبطولات التي خلدت ذكراهم في تاريخ المغرب السياسي والوطني، ومن ذلك تفجير السكة الحديدية واحراق مزارع المستوطنين.

لم يكن الاستعمار شرا مطلقا، بل خلف وراءه لأبناء المدينة بعض الامكانيات والتجهيزات المهمة مثل الميناءين النهري والبحري، وطرقات ومدارس ومحطتين للقطارات ومصانع وبناء كولونياليا من طراز رفيع، لكن الإدارة المحلية عبثت بكل ذلك ومسخته مسخا. لم يكد يبقى اليوم، وأنت تتجول مترجلا في شوارع المدينة، أي شيء من ملامح الماضي، سوى بعض الإطارات الحديدية الصدئة الخاصة بتجهيزات صرف المياه منحوت عليها عبارة «مدينة بورليوتي»، أما الباقي فطالته أيادي الاستغلال والنسيان، ومن ذلك الفيللات ذات القرميد الأحمر التي خلفها الاستعمار التهمها التوسع العمراني العمودي ونبتت العمارات الشاهقة كالفطر، إلا أن أكبر جريمة عمرانية لحقت بذاكرة المدينة كانت في شكل قرار إداري قضى بهدم كنيسة كبيرة تركتها فرنسا ويشاد مكانها مقر اقليمي لبنك المغرب (البنك المركزي)، مما محا أكبر ملمح حضاري كان بالإمكان توظيفه لجلب السياح والمساعدات المالية والثقافية من فرنسا الحريصة على الابقاء على وجودها الثقافي في مستعمراتها السابقة مثل المغرب. ورغم الاحتجاجات ولائحة التوقيعات التي جمعتها نخبة من أبناء منطقة الغرب لمنع هدم الكنيسة التي كانت تسمى (ميرابو) تم نسفها وكان الاحتجاج صيحة في واد ليس إلا.

وإذا نظرنا إلى الجارة اسبانيا، سهل أن نرى كيف استغلت مآثر الوجود الحضاري الإسلامي في مدنها في جلب عشرات الملايين من السائحين، وهي النسبة التي ما زال المغرب يحلم ويجند كل طاقاته لتحقيق أقل من عشر أعشارها. ويعلق أحد أبناء المدينة على الموضوع بالقول «لو كانت لديهم ثقافة العمران والذوق الجمالي لاهتموا بقصبة مولاي اسماعيل على الضفة اليسرى لشاطئ المهدية، حيث أذاق المولى اسماعيل، وهو واحد من أقوى ملوك المغرب، الغزاة أمر الهزائم»، وقبل هذا الملك الذي قيل عنه إنه تزوج مئات النساء وأنجب عددا من الأبناء استحال أن يعرفهم جميعا، بل صار حين يأتيه أحدهم متظلما يسأله «ابن من أنت؟»، وحلم بتشييد صور يصل القنيطرة بمكناس (شرق) حتى يتمكن فاقدو البصر من السير بمحاذاته دون مرشد. قبل هذا الملك القوي زج السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين بأحد أبناء الملك الأندلسي المعتمد بن عباد، في سجن قلعة المهدية الموجودة بالقنيطرة، والتي تحول ما تبقى منها اليوم إلى مأوى للسكارى ومرتعا لقطاع الطرق والمنحرفين.

وكان من نصيب القنيطرة أن تدخل قسرا من باب صفحة سوداء من تاريخ المغرب الحديث، حين انطلقت منها الطائرة التي قصفت الطائرة الملكية في سياق الانقلاب العسكري الفاشل عام 1972 الذي دبرته مجموعة من العسكريين كان على رأسهم الجنرال الدموي محمد أوفقير، الذي يحكي أبناء المدينة عنه أنه صال وجال في القنيطرة وعاقر الخمر في حاناتها وسهر الليالي في حي الحاج منصور على ايقاع أنغام «العيطة»، كما يسر بعض المولعين بنبش الماضي أن أوفقير ترك مقبرة كان يدفن بها عددا ممن عارضوا سياسته، في نفس المكان الذي كان يقيم به لياليه الحمراء. «لم تختر المدينة قدرها، بل هو من اختارها» يقول دارس تاريخ من أبناء القنيطرة.

وبعيدا عن هموم المدينة، ذات قرابة النصف مليون نسمة، مع النقل واحتكاره من طرف شركة وحيدة، ومشاكل مجالسها البلدية، فإن موقعها بين غابة المعمورة، أكبر مجال غابوي لشجر الفلين في العالم، ومنتهى نهر سبو الذي قطع 600 كيلومتر واختار أن ينهي رحلته من الأطلس المتوسط لينام في أحضان المهدية (5 كلم غرب المدينة) يمنحها، وهي التي لا تبعد عن العاصمة الرباط بأكثر من نصف ساعة على متن القطار، حظوظا كبيرة في التوسع والنمو، خاصة أنها تعد عاصمة الفلاحة الصناعية بالمغرب والمنطقة الصناعية الخامسة وطنيا وتنتمي إلى قلب «المغرب النافع» بناء على تقسيم المارشال ليوطي نفسه، بالنظر إلى الامكانات الطبيعية والفلاحية وانبساط الأراضي ومرور أطول خط للسكك الحديدية في المغرب بها، ضمن محور وجدة (شرق) مراكش (جنوب).

فضلا عن ذلك كله، تحتوي القنيطرة على مزيج من المظاهر الحياتية التي تمكن الانسان من الانتقال، في ساعة من الزمن، بين الأحياء الراقية، ومظاهر الإقطاع وتجليات البورجوازية، والأحياء العتيقة، والأحياء الشعبية، والأحياء الهامشية… وذلك من حي بئر الرامي الراقي إلى حي «الحلوف»، تلك العلب الإسمنتية الضيقة التي أعدت لإيواء أناس اعتبرهم ـ حسب رواية متداولة ـ أحد كبار رجالات السلطة في ثمانينيات القرن العشرين، مجرد «خنازير»، ورغم اطلاق اسم «المنطقة المطهرة» على هذا الحي ظل الاسم الشعبي سائدا.

ويعد حي الخبازات التجاري القلب النابض للمدينة، حيث الرواج التجاري والصفقات وارتفاع الاسعار ونزولها والازدحام.. وبائعات الهوى وبائعات الرغيف الشعبي «رزة القاضي» الذي يعد ماركة مسجلة للمطبخ في غرب المغرب، مما يجعل المكان مجسا اجتماعيا واقتصاديا للمدينة وبؤرة التقاء المتناقضات ونموذجا لتجاور وتساكن عجيبين بين القبح والجمال.

بعد خمسين سنة (68 حاليا فالمقال كتب في 2005) من استقلال المغرب الحديث إذن، ما زالت القنيطرة تصارع الزمن من أجل اثبات الذات، ذلك أن مكوني البداوة والتحضر يوجدان في كل أمكنتها، ومعطيات الحداثة والتقليد لا يكفان عن التجاذب في علاقات الناس وطرق عيشهم وثقافتهم واستهلاكهم. وكما لو كانت المدينة مغربا مصغرا، تتعدد بها اللغات (دارجة، وأمازيغية، وفرنسية)، ويساور أبناءها طموح تخونه امكانيتهم في أحايين كثيرة، لكن محمد الذي حكى أن جده روى لأبيه أنه رأى امرأة في القنيطرة عام 1942 وهي تدخن فلم يصدق، يتساءل اليوم لو زار أحد أحفاد ليوطي القنيطرة فهل سيعتبرها صفحة جغرافية قدت من تاريخ فرنسا سهوا فأهملت، أم جزءا من مغرب كان يجب أن يكون أجمل بعد نصف قرن من الاستقلال.
ملحوظة: كتب هذا الريبورتاج عام 2005 وقد نشر موقعا باسم الصحافي احمد الجلالي في يومية “الشرق الأوسط” بتاريخ الجمعـة 22 شـوال 1426 هـ 25 نوفمبر 2005 العدد 9859

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد