أحمد الجَــلالي
من مع مشروب “الكالة” ومن يقف ضدها مقاطعا ؟ لا يهم، سنعرف لاحقا. يا ناس، وكأننا يجب أن نضحك لزوما مع وبعد الإفطار الرمضاني ، كما لو أن عدم الضحك من مبطلات الصيام في مذهب لا نعرفه ولم يسبق لنا أن سمعنا به في كل بلاد المسلمين.
نعرف منطوق ومعنى المأثور الديني “إن القلوب إذا كلت عميت” لكننا لم نسمع في آبائنا ولا أجدادنا الأولين والآخرين أن الضحك سنة مؤكدة في رمضان تحديدا، وكأن يوم الصيام كله هم وغم بلا شك ولابد للعبد المؤمن أن يستغفر ربه بجرعات يومية من الضحك المتلفز عسى ربه أن يكفر عنه مفاسد ونواقص صيامه.
وكما يقول المغاربة فإن “الضحك فيه وفيه”، ويضيف الأوائل منا أن “الضحك بلا سبب من قلة الأدب” ويسترسلون ساخرين ممن لا يبالي “الضحك راه فيك يا اللي حادر ودنيك”..وما إلى ذلك من الحكم والنقد في باب الضحك.
ومن فرط فرض “الضحك المتلفز” على الشعب المغربي فقد تعايش مع حصص سنوية مضبوطة التاريخ تقتضي أن نضحك بعد أذان المغرب مباشرة سواء عبر الإذاعة أو التلفزيون ( أن نضحك) رسميا مساهمة منا في مجهود وطني مقدس يجعل المواطن الصالح مضطرا لأن “يفرنس” ــ من التفرنيس وليس الفرنسة ــ ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين على حسب حركة الهلال والتقويم القمري.
والضحك كفعل بشري يميز الإنسان عن باقي الكائنات طُرا، وبصرف النظر عن تلك الحركة الميكانيكية التي يشترك فيها الشفتان واللسان والأسنان وتجاعيد الحنكين فهو أصناف وأنواع:
ــ ضحك أصفر مزور للمشاعر وهو أحد نواب شعب النفاق بما هو تزييف للمشاعر وتعبير غير حقيقي عن نشوة ضحك لم تحصل،
ــ ضحك أسود وهو تعبير مرادف مني عن “الكوميديا السوداء”، أي ذلك النوع من الإضحاك الذي يجعلنا نضحك من أحوالنا وعليها ثم نتنهد في النهاية لأن الرسالة مررت بشلك نقدي موجع،
ــ ضحك أبيض، وهو الضحك المحايد أو المتموقع بين الضحك والابتسام مع غير قليل من البراءة والبلاهة أحيانا،
غير أن العبقرية المغربية اضافت إلى هذا القاموس شيئا يخصنا وحدنا دون باقي الشعوب وهو “الطنز العكري”. وإن شئنا الاجتهاد في تفكيك هذا التعبير فالطنز هو الضحك المقترن بالسخرية و “لملاغة” غير أننا نجهل تماما سبب إلباسهم إياه لونا “عكريا”.
ويدخل في باب “الطنز العكري المتلفز” هذا الركام من برامج “الضحك علامن؟” التي تحفل بها قنوات القب العمومي الرسمي كل رمضان فتتقيؤها علينا وفي وجوهنا دفعة واحدة ممزوجة بوابل محموم من وصلات الإشهار المستعجل والذي يخلو من كل إبداع أو لياقة تراعي أن الناس في ساعة الإفطار “مخلطين” حيث يجلس الرجل مع أبنائه وتكون إلى جانبه مباشرة كنته.
ولكن التعبير هذا العام عن التبرم من “ريكلام الضحك المتلفز” بلغ مداه خلال الأيام الأولى لشهر الصيام الفضيل بفعل سلالة “يزة” وما خلفته من تأفف وسخط طال أوساطا شعبية واسعة وطبقات اجتماعية في مقدمها أسرة التربية والتعليم.
وفي مقابل هذا الحنق مما صدر عن دار البريهي ودار عين السبع هلل وصفق جمهور عموم المغاربة لما أنتجه شاب كوميدي قادم إلى الرباط والبيضاء من هامش الهامش.
نقصد الكوميديان الشاب باسو الذي سطع ضياء سمرته مرة أخرى بمناسبة إنتاجه سلسلة سماها “الكالة” خصصها لنقد واقع الفساء الإداري ببلادنا بصيغة “الوان مان شو” وبميزانية متقشفة تكاد تقترب من سقف الصفر درهم: مكتب يعج بالملفات الورقية وهواتف وكرسي وكاميرا “كو برو”…والله يجعل البركة في الموهبة والثقة في النفس.
لماذا أعجب المغاربة بهذه “الكالة”؟ الجواب بسي ومركب:
ــ لأنه شكلت النقيض لكل الهراء المتلفز والممجوج والمكرر على أعيننا ومسامعنا كل عام مع جرعات متزايدة من حامض الطنز…الكرعي هذه المرة.
ــ لأن باسو يوفر بكالته تلك حائط الصد الفني/النقدي لما يعانيه المواطن البسيط مع الإدارة والمنتخبين والحرايفية المخززين في التلاعب بالصفقات ورواد المحسوبية والمحزوبية.
ــ لأن باسو في المخيال الشعبي العام صورة تنوب عن أبناء وبنات الهامش في تحديهم لكل جبروت التهميش والتغييب والإحباط الممنهج والإفشال المدروس بعناية.
لو تفحصنا مضامين حلقات الكالة فيمكن أن نقول إنها لا تشكل جديدا ولا سبقا في تناول مواضيع بعينها، إذ الاحتجاج الفني على مظاهر الفساد وتلاعبات المفسدين كان منذ استقلال البلاد مادة دسمة تناولها فنانون ووصلت ذروتها مع الفنان الاستثنائي أحمد السنوسي “بزيز”.
لكن ما جعل المغاربة يقفون كالة ضد كل من ينتقد صاحب الكالة هو أنهم وجدوا في هذا الشاب من يتجرأ لـ”يكالي” عنهم بعض الظلم ولو بسلاح الكلمة والسخرية السوداء من واقع أشد قتامة.
الغريب الذي وقع في أعقاب بث بضع حلقات من “الكالة” أن شائعات سريعة تسربت وروجت مفادها أن باسو تم اعتقاله أو سوف يتم اعتقاله ولا بد.
الإشاعة سلاح مسموم إن كانت وضعت وصنعت بقصد وترصد فهي تحمل رسائل تحذير وتخويف لمن يهمه الأمر أن توقف عما أنت ماض فيه ..وإلا.
أما إن كانت الإشاعة شبه عفوية فهذا سيكون مؤشرا خطيرا على ما وصل إليه العقل الجمعي الوطني، الذي صار ــ إن صح الافتراض ــ يجزم بأن كل من تجرأ وانتقد علنا فإن مصيره سيكون السجن.
مهما بلغ التضييق والخوف المبرر والمرضي فإن المغرب كباقي الأمم لن يعدم من يرفع عقيرته بالنقد والدعوة للإصلاح لأن النقد والرفض من صميم الوجود البشري العاقل.
وفي زمن الشبكات العنكبوتية ووسائط التواصل الاجتماعي كونيا يبدو بئيسا ومثيرا للشفقة منظر من مازالو يعيشون في زمن التلفزة الواحدة والإذاعة الوحيدة والجريدة الواحدة والفكرة الواحدة والخطاب السياسي الواحد.
مساكين والله هم في زمن انقلبت فيه اليقينيات وسقطت الإيديولوجيات وتعرى كثير من المستور بحيث صار طفل في العاشرة يحير الكبار بنطقه جملا بسيطة تلخص كل شيء، لأنه توفرت لديه سوف تتوفر أكثر تلك الرصاصة القاتلة المسماة “معلومة”.