أحمد الجلالي
مر أكثر من أسبوعين على فاجعة الزلزال الذي ضرب المغرب،في الحوز وتارودانت وشيشاوة ومس مراكش، مع ما حاصبه من تضامن شعبي ونقد واسع للأداء الرسمي لوجيستيا وزمنيا وتواصليا.
وعلى المستوى الرسمي، سجل ولا حرج ما شئت من النقائص والارتباك واكتب ما يناسبك مضمونا وأسلوبا في باب النقد والاعتراض…وانشر بالصورة والصوت ما يحلو للسانك من الأشرطة وقل بصوت عال: هذا الذي كان ينبغي أن أو هذا الذي يجب أو ما كان عليكم أن تفعلوا هذا هكذا…
قل واكتب ما تريد فباب القول في هذه البلاد ليس أمامه زحام: الكل داوي والكل لا يعارض الكل، والجميع ينتقد الجموع.
ولكن من يفعل الذي يجب أن يفعل في وقت الفعل؟
ولأول مرة لا أكاد أجد تعقيبا نقديا على ما صنعه الشعب المغربي بكل عفوية حين وقوع الكارثة ومعرفته الفطرية أن الرسميين والبيروقراطيين لم يخلقوا للتصرف في وقت الشدة بالسرعة المطلوبة التي يحتسب فيها الوقت بالثانية مادامت الأرواح عالقة تحت الأنقاض أو تحتاج إسعافا أو دواء وخبزا وشربة ماء. ولذلك تصرف المغاربة بما يليق بهم من كرم وهبة رجولية حين فزعوا في مسيرات مدهشة صوب المناطق التي لم تسم بعد “منكوبة”.
وبعد مضي “سوقين” ونيف على الزلزال المدمر، استفاق مكونان رئيسيان في الحكومة، في شخص رئيسها أخنوش ووزير العدل فيها وهبي ليزورا مناطق النكبة، فيما قرر المكون الثالث، حزب الاستقلال، في شخص نزار بركة، الاستسلام لنوم أعمق تحت الملاءة…وكأن شيئا لك يقع.
ــ وهبي، في مشهد كاريكاتوري، حمل “صاكين” وراح إلى منطقة تارودانت ولسان الحال يقول: هانا جيتكم..لا تقولوا ما جيتكم…زغرتوا يا لعيالات.
ــ أخنوش، لم يفوتها لوهبي ولبس “سبرديلة” على سعده ووعده وطلع للجبل ليكتشف الحوز للمرة الأولى في مناسبة ليست انتخابية ولا تجارية. وكان مثيرا للشفقة أن يذهب ليعزي المكلومين بعد مضي “سوقين” على محنتهم. وليث عزيزا قرأ الفاتحة وصمت ولم يقل كلاما ساكتل، فالرجل “داكشي لي عطا الله” وهبه رب العالمين كل ثروات المغرب ولم يجد عليه بفن القول وموهبة الخطابة والثقة في النفس. وفوق طاقته لن نلومه.
وقبل أن نحاول رسم ملامح ذلك المغرب الجديد المغاير المشتهى، والذي وجب أن يخرج من تحت أنقاض الزلزال، هناك ملاحظات في السياق لا بد من تسجيلها:
ــ هل تم انتشال كل الجثث إلى حدود اليوم وكم عددها؟
ــ هل وصلت المساعدات الضرورية إلى الدواوير في أعالي الجبال؟
ــ كيف تم إحصاء كل الدور المهدمة وشبه المهدمة بهذه السرعة؟
ــ على أي أساس تم إقرار قيمة التعويض المصرح بها؟
ــ إذا كان بناء مسكن يكلف فقط 140 ألف درهم فقط، فلم السكن الاقتصادي يباع للمغاربة بضعف المبلغ؟
ــ من هي الشركات التي سيفوت لها مشروع إعادة الإعمار وبناء على أية معايير قانونية؟
ــ الفاعلون الحيثان الكبيرة في سوق العقار الوطني، ومنهما العمران والضحى، أليست هذه فرصة إسهامهما مما راكموه من أرباح فلكية، بالمجان دعما للمجهود الوطني التضامني في هذه الظرفية الصعبة جدا؟
ــ هل يجب أن يضرب زلزال أو تحل كارثة بباقي مناطق المغرب المنسي حتى يعاد اكتشاف أنها تعيش في 2023 أوضاع القرون الوسطي، ومن ثم تخصيص ملايير الدراهم لفك عزلة المكان والزمان عنها؟
لقد كشف الزلزال أن زلازل أخرى أصابت مساحات كبيرة من الوطن وظلت تتألم وتصرخ تم يئست فصمتت دون أن تلتفت إليها الدولة بإمكاناتها ولا الحكومات بميزانياتها التي ذهبت في طرقات أغلبها لا يدري عنها الناخبون مثال ذرة.
ولقد فضح الزلزال حدود تجاربنا ومحدودية إمكاناتنا في التعامل مع الطوارئ والنكبات المباغتة، ولا مجال هنا لنفاق أو مكابرة، فحتى اليابان والأمريكان بعظمتهما يحتاجان إلى دعم خارجي حين الكوارث، وليست هناك دولة في العالم مكتفية دائما وفي جميع الأحوال بنفسها كي نزعم أن المغرب “براسو وحدو قاد براسو”.
ومن يتشاطر ويطرح العكس، ندعوه فقط ليذهب إلى الدواوير والقرى التي نسفها الزلزال ليجيب عن ثلاثة أسئلة لاغير: اين الطرقات؟ أين سيارات الإسعاف؟ أين الحد الأدنى من شروط الحياة الطبيعية؟
وهناك أم الأسئلة التي راجت بحدة على ألسن المغاربة وفي عقولهم، فبعد أن كانوا يجالون في طبيعة وأداء الحكومة صاروا يتساءلون بكل جدية: هل عندنا فعلا حكومة؟
وكل الحق معهم، فقد أثبتت الحكومة في هذه النكبة أنها منعدمة، وأنها تفضل السبات في وقت العمل، والصمت في وقت الكلام، والغياب في زمن الحضور الإجباري.
ولو كانت هذه الحكومة تتقن السياسة ولو في بعدها الحزبوي الدعائي كحد أدنى لنصبت أسبوعيا خيمة في منطقة من مناطق الزلزال وعقدت فيها اجتماعاتها وأشعرت المواطنين أنها معهم حيث هم. ولكن أين هو الحس التواصلي والسياسي، حتى في شقه الانتهازي الذكي؟
هناك دوما مغرب حاضر غير مرضي عنه ومغرب آخر مشتهى يأبى أن يتصرف مع كل الأجيال المتعاقبة “كمهدي غائب” يعد بالزيارة في وقت ما. هناك على مر الحقب التاريخية “مغرب ممكن” نظريا مستعص تنفيذيا.
لكنه يبقى حلما مشروعا رغم المعيقات وشروط التيئيس المعاكسة للمسارات التنموية والحقوقية والديمقراطية.
وبما أن العناوين الكبرى التي تم اطلاقها لملء الفراغ او لتجديد الامل او للإلهاء قد طلعت عليها شمس الواقع الذي لا يرتفع في عناد يشبه تمنع دستورنا على التنزيل الحقيقي، فقد حان الوقت لرفع شعارات حقيقية تعبر عن الواقع كما هو بلا مواربة.
شكل الحكومة المقبلة:
لم تعد “حكومة كفاءات وطنية” مجرد ترف فكري او لغو سياسي للاستهلاك الإعلامي بل حتمية دونها الضياع. فالدولة بأجهزتها تعرف التنظيف من المفسد والعبقري من الغبي المدفوع دفعا نحو المناصب الكبيرة والحساسة. وتستطيع هذه الاجهزة ان تقترح على الملك زبدة العصارة النخبوية في كل المجالات لتكوين حكومة فاعلة علمية تحاسب وتجازى بناء على الإنجازات وليس تأسيسا على ولاءات فئوية او مصلحية.
مندوبيات سامية جدا:
لدينا ما شاء الله كم هائل من المندوبيات والمجالس العليا، بعضها يشتغل في المتوسط، والبعض الآخر لا احد يدري ماذا حقق ولا كيف يعمل. وقد بينت الظروف الحالية ان البلاد بحاجة الى مندوبيات سامية جدا في القطاعات التالية:
مندوبية سامية للبادية: يكون تحت تصرفها ميزانية صندوق التنمية القروية، ويشكل مجلسها الإداري من قرويين حقيقيين من كل جهات المملكة.
مندوبية سامية للفقراء: تعنى بأوضاع واحتياجات المغاربة الذين يعيشون قرب او تحت خطوط الفقر الأسود، ويرأسها حصريا فقير ابن فقير وجده فقير..
مندوبية سامية للبحث العلمي: يرأسها عالم معروف مستقل غير محزب، وتمنح نسبة من الدخل القومي الوطني ويعهد اليها بمشاريع البحث العلمي التي يحتاجها المغرب في الزراعة والبيئة والصحة والتنمية والاختراعات، ويكون من صلاحياتها انتقاء الباحثين من الجامعات والمعاهد الوطنية في شتى المجالات.
مأسسة التطوع الشعبي/الاحساني:
تبين من خلال الفعاليات التطوعية المواكبة للزلزال القدرات الجبارة التي يتوفر عليها الشعب المغربي ليساعد الدولة في ما تعجز عنه او يفوق سرعتها وامكاناتها. وعليه، سيكون من باب اهدار هذه الفرصة ان لم تبادر الدولة لاستثمار هذا المعطى الجبار في اتجاه مواجهة التحديات وتحقيق الأهداف التي ظلت مؤجلة. فالمغاربة برهنوا عن استعداد خرافي للعمل التطوعي.
الضريبة على الثروة:
مهزلة تغييب قانون الإثراء غير المشروع يجب أن تنتهي. فلم يعد ممكن اليوم أن تبقى الوطنية من نصيب الفقراء وحدهم فيها تذهب ثروات الوطن لحفنة منتفعين. وليس أمام الدولة مسارا ودربا نحو مغرب متضامن قادر على مواجهة الصعاب المصيرية غير فرض قانون الضريبة التصاعدية على الثروة حتى يعيش الجميع بعدالة تحت سقف بيت كبير يسع الجميع اسمه الوطن/المغرب.
الاستعداد لعصر الكوارث:
بات واضحا ان العالم كله مقبل على حقبة عنوانها الكوارث الكبيرة. وبما ان بلادنا جزء من هذا العالم فعلينا الاستعداد جديا للقادم من الأزمنة الرديئة طبيعيا وبيئيا.
علينا وضع خطة لمواجهة العطش القادم، والتعامل مع توفرنا على بحرين كهبة ربانية تحلم بها كثير من الدول التي لا منافذ مائية لديها. وهنا تبرز أهمية التعجيل بمشاريع تحلية مياه البحر وتجريم كل الزراعات والسلوكات التي تهدر فرشاتنا المائية بعبط انتحاري منقطع النظير.
ليس سرا أيضا ان معظم مدننا الكبيرة تتوفر على احياء عتيقة بها كم كبير من المنازل المتهالكة والتي تهدد حياة المغاربة دون كوارث طبيعية حتى فما بالنا بالزلازل التي تتراقص درجاتها على سلم ريختر. ان التعجيل بمعالجة خطر البيوت الآيلة للسقوط صار مسؤولية ملحة على عاتق الدولة. وفي السياق، لم يعد ممكنا التساهل منذ اليوم مع معايير السلامة في كل بناء جديد سواء فرديا او من خلال مشاريع عقارية كبرى.
ثورة في السلطة القضائية:
كل هذه الأفكار والمشاريع ستبقى حبرا ذابلا على ورق أصفر مالم تعضدها سلطة قضاء مستقل لا يحابي أحدا ولا يهاب سلطة فوق رأسه أو هاتفا يرن على مكتبه.
وسبل تقوية القضاء وتسييد القانون ليست خافية ولكنها تحتاج قرارات سياسية فوقية شجاعة، أما المسلكيات والآليات فللإدارة المغربية ما يكفي من التجربة والدهاء لفرض المعقول والشفافية والعدالة.
إن القضاء المستقل القوي غير البيروقراطي، السليم المعافى من فيروسات الفساد والإفساد، هو الضامن الحقيقي ليسير المسؤولون والمؤسسات والأفراد على صراط أمل مستقيم، في طريق لا حفر فيها، نحو مغرب لا اعوجاج فيه ولا فيروسات تنخره ولا زلازل اختلاسات تسفه أحلام أجياله.
قالوا، وقد صدقوا، إن في كل محنة منحة…كفانا محنا ولنجعل جميعا هذه النكبة فرصة لولادة غير قسرية لمغرب آخر نخرجه سالما من رحم أنقاض التخلف والفساد واللاجدية..فنحتفل بمجيئه وليدا إلى هذا العالم..على أن يحتفل الأحفاد بعيد ميلاده في الألفيات المقبلة.
نعم نقدر على هذا وأكثر..إن صفت النوايا وشحذت الهمم في مشروع وطني ينطلق نحو مستقبل لا مكان فيه للضعفاء..وهل يسبب الضعف غير الفساد والعبث والارتجالية والأنانيات المريضة؟
حمى الله المغرب.