أحمد الجَــلالي
قبل عهد الماحية القاتلة أو سموها “بو ڭليب لكحل” الذي اجتاح هذه المنطقة الوديعة المسالمة، قدر لي من بين جميع أشقائي وشقيقاتي أن أرى النور في مستشفى علال التازي.
حسب ما روي لي عندما وعيت شيئا من هذه الحياة أني كان المفترض في أن أموت خنقا في الرحم لأني رفضت أن أتي إلى هذه الحياة الحمقاء، غير أن الخالق الرازق كان له رأي على يدي أمته، القابلة التي لم أرها قط “أمينة”.
ما بين علال التازي ومسقط رأسي وباقي مكوناتي يوجد وادي سبو العظيم فقط، فأنا ابن هذه المنطقة المفجوعة من علال التازي “الفيلاج” إلى أحد أولاد جلول غربا.
أعرف جيدا منطقتي التي قضيت بها العقد الأول من عمري ونصف العقد الذي تلاه فقط قبل أن تطوح بي الظروف إلى مدن مختلفة بقصد الدراسة والتحصيل الذي لم يكن باليد غيره مسلكا وحيلة “للتسلق الطبقي” ونيل أطباق معيشية بها بعض المرق وليست حافية.
أعرف أمزجة وطبائع الناس بهذه الرقعة من الوطن من بلقصيري مرورا بدار الكداري مرورا بـ”بوزريوطات” ذلك المعمر قصير القامة الذي “كرمه” جدي رحمه الله بذلك اللقب لأن ذلك المحتل الفرنسي لم يكن يهدأ وكأن “بيضة حامية ” بجسده تجعله كثير الحركة في المكان جيئة وذهابا حاملا “زريويطة” يهش بها على الماشية والبشر، وصولا إلى مولى قبتين، سيدي امحمد بنمنصور، جدنا الصوفي الرائع، الذي تخرج على يديه الكريمتين مئات من حفظة القرآن الكريم.
الناس الذي وعيتهم في طفولتي الأولى كانوا شيبا وقورا كادحا في الأرض من أجل لقمة حياة مرة..لكنهم يحبون الحياة. وفي تلك الأعراس النادرة كنا نرقبهم يرقصون “الهيت” فلا نصدق أنهم يفرحون أيضا كباقي الناس، من كثرة الجد الذي طبع حياتهم.
النسوة اللواتي فتحت عليهم العين ومنهن الوالدة رحمها الله، كن مدارس في العمل والتربية والصبر والتدبير المزلي، كن عبقريات تصنعن أشياء من لا شيء تقريبا..لكنهم كن محبات لحياة. وفي الأعياد كما في الأفراح كن يصبحن ملكات وقار وحياء وجمال بلباس يرتدينها للمناسبات فقط..كحل وسواك وعطر من السوق الأسبوعين كان كافيا ليجعلنا نعيد اكتشافهن بأعين مندهشة.
الشابات اللواتي رأيت في طفولتي وبداية مراهقني كن كنوزا وأسرارا متحركة. كانت العازبات حرمة الجميع ورمز احترام. كان زواج إحداهن حدثا وإنجابها فرحا عموميا..
الشبان الذين كانوا قدوتي، أولئك الكبار في نظرنا كانوا كبارا: منتجون في الحقول، مسؤولون عن أسرهم وهم بين الطفولة والمراهقة، يملكون مواهب التمثيل في الأعياد، فنانون في الأعراس، منهم عازفون فطريون ومغنون بالسليقة. سباحون مهرة منهم من يقطع وادي سبو غطسا بنفس واحد.
كان التدخين عندهم بتخف واحترام للكبار، و “الكيف” لابد لم من مكان بعيد أو وراء جدار بتحفظ لا يخفى.
كان البعض يشرب الخمر مرة أو مرتين في السنة بعيدا عن الأنظار..وليلا. وغالبا ما يكون ضمن “الجماعة” من يرافق “الشاربين” دون أن يشرب معهم كي يبقى حارسا لهم وحائلا دون خرجهم جميعا عن السطر. وفي الأعراس كان “الروج” يوزع تحت الجلابيب..وغالبا يكون “الحفل” بعيدا عن مكان الاحتفال.
كانت تحدث حوادث أحيانا سرعان ما يسيطر عليها “لجواد” فيلمون الشبان بسرعة ودون خسائر، في تواطؤ عجيب بين العقلاء ولسان الحال يقول: دراري صغار سامحوهم..سيكبرون ويعقلون.
منطقة علال التازي هي وادي سبو ووادي بهت، هبتان من الخالق للناس والحيوان والزراعة.
علال التازي الذي في الخاطر هو المتنفس للكبار واليافعين: مقاه جميلة تزيدها الحافلات القادمة من الشمال والجنوب رونقا عندما ينزل الغرباء بلباسهم الجميل من أجل الاستراحة قبل مواصلة السفر.
علال التازي هو عاصمة “المشوي” في الغرب كله حيث كان الأجانب يتوقفون ببشرتهم البيضاء أو الشقراء الفاقعة ليزدردوا ما طاب من الكفتة و”الكوطليط” ونحن الأطفال نراقب هذه الكائنات التي تشبهنا ولا تشبهنا في النهاية.
علال التازي هو ضيعات الليمون والحوامض ذات الجودة العالمية في مدخل هذه الجماعة على اليمين وعلى اليسار قبل ولوج تلك القنطرة التحفة التاريخية، والتي مازالت تقاوم الزمن بعد إنشاء أخرى عصرية لصيقة بها.
علال التازي هو مقصد أهلا دواوير كثيرة للتبضع أو زيارة الطبيب أو الصيدلية أو شراء مواد فلاحية لا بد منها للمزروعات.
علال التازي الذي أعرف أحتفظ به في ذاكرتي وللآخرين أن يعبثوا بما تبقى فيه كما تأمرهم شياطينهم.
هذا “الفيلاج” عندي سيبقى عاصمة عواصم الدنيا…منه اشتريت أولى الصحف وتابعت عبرها ما نشر لي بالعربية والفرنسية في بداياتي مع لوثة الكتابة.
هذا “التازي” هو بداية ولعي بالمقهى عنما كانت الجلسة في المقاهي تعني الكثير: قراءة وكتابة وتأمل وشفف بكل ما هو بسيط وذي دلالة يصعب شرحها اليوم لكثير من سكان المغرب.
“سيدي علال” هذا هو مسرح اقترافي جريمة الكتابة عبر مئات الرسائل التي كنت أرسلها وتأتيني من الداخل والخارج. رحم الله “با الحنفي” صديق الوالد، ذلك الأمازيغي السوسي الطيب الوقور الذي حفظ أسراري ورسائلي لسنوات عديدة لوجه الله.
كلما مررت بالسيارة مسرعا راكضا ألهث خلف هذه الدنيا الفانية العطشى التفت بشغف وحنين إلى المحل رقم 7 حيث كانت تنتظرني رسائلي الغالية أو اتصال هاتفي أيام كان الهاتف سحرا لا تصدقه الأذن.
أما مصنع الخميرة باتجاه جماعة بنمنصور فلم يكن لي معه سوى لقاء سنوي في طريقنا إلى الموسم الساحر “مولى قبتين” نهاية كل موسم حصاد حيث كان أهل البادية ينتزعون لأنفسهم أسبوعا سياحيا بعد سنة من العمل المضني.
وقبل أن تكتمل فرحة وصولنا للموسم على “الشاريوات” أو الجرار الذي يسحب خلفه عربات حديدية.. كنا نمر بمصنع ذي هيبة، من حيث يقال اليوم إن المادة السامة التي أضيفت لـ”الماحية” قد خرجت، كان “لوزين” يجعلنا نشم رغما عن أنوفنا روائح “خانزة” أفظع من روائح الرمم التي ينفر منها أعتى الكلاب الضالة.
ليست جماعة علال التازي وحدها من أدركتها أبشع تشوهات المجتمع الذي ــ يا ويلتي ــ حتى صار الشبان واليافعون يتناولون أي شيء كي “ينشطوا” أو ربما لينسوا واقعا هم وحدهم من يدركون مرارته ولسنا عليهم بأوصياء كي نعبر عنهم من زاويتنا المتخلفة زمنيا.
لكل خمرته وسكرته، ومن حقي أن أحتفظ بـ”مياه الحياة” خاصتي كما عشتها وعرفتها في “علال التازي الذي كان”.
تعازي القلبية الصادقة للأسر المكلومة أمهات وآباء واشقاء. ولا أرانا الله وإياكم بأسا.