* أحمد العكيدي
القضية الفلسطينية عموما، وما يحدث في غزة على وجه خاص من أبرز ما يحرك ضمائر الأفراد والشعوب ويدفعها للضغط على حكوماتها لوقف هذه المأساة الإنسانية المتفردة من حيث الإمعان في القتل والتعذيب والتنكيل والتجويع؛ فلم يبق شيء متطرف في الوحشية لم يجرب على أبناء غزة.
من هذا المنطلق تخرج الجماهير إلى الشوارع وتصدح بصوتها عاليا ويحتج ذوو القلوب الحية داخل المؤسسات الرسمية وخارجها وعبر الصحف ومختلف الوسائل الإعلامية وغيرها، ومنهم من قدم روحه قربانا وآخرون استقالوا من مناصبهم السامية ولائحة المواقف النبيلة لن تتوقف ثانية عن إدراج المزيد.
الدافع هنا بكل تأكيد إنساني، هؤلاء ينتصرون لإنسانيتهم أولا، فلا يوجد إنسان جدير بهذه الصفة يستطيع غض الطرف عما يقع
لهذا الشعب الذي وضعته الآلة الحربية الإسرائيلية الهمجية، ومن يساندها ويتواطأ معها، على طريق أول إبادة جماعية مصورة في التاريخ، ثبت على مدار الساعة على شاشات القنوات العالمية وتتناقل مشاهدها المفجعة وسائل التواصل الاجتماعي، ولا نظن أن أحدا على وجه الأرض لا يعلم بشناعتها.
الملفت للنظر هنا ليس هذا الحراك الجماهيري المساند، بل نوعيته؛ فنحن أمام تعاطي دولي شعبي غربي بالأساس في موطن أكبر البلدان الحليفة لإسرائيل حتى أن بعضها حاولت في بداية العدوان حجب أي صوت معارض عبر قرارات رسمية ومن خلال التدخل الأمني مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها. وقد شاهدنا كيف اعتصم محتجون أمام منزل بلينكن رافعين شعارات التنديد ومطالبين بوقف الحرب ورأينا آخرين يلاحقون بايدن، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، في أماكن تنقله، شاهرين في وجهه عبارات اللوم والعتاب ومستنكرين ما يقوم به من دعم عسكري ودبلوماسي لا حدود لهما للاحتلال.
في أوج هذا النضال المستميت والمستمر لأزيد من ستة أشهر، تستكين معظم الشعوب العربية والإسلامية المعنية الأولى بهذه القضية ونخبها أيضا إلى صمت يكاد يصبح مطبقا، اللهم إذا استثنينا بعض الفعاليات المحتشمة هنا وهناك والمتفرقة زمنيا ومكانيا، لا تأثير لها يذكر ولا تغدو كونها مجرد تطهير نفسي ورفع عتاب.
هذه الشعوب التي أبدعت ثورات الربيع العربي وصمدت بشكل أسطوري أدهش ألمع المتخصصين في علوم الاجتماع والسياسة والأجهزة الأمنية والمخابراتية رغم توفر الوسائل المادية والبشرية والتكنولوجية، لم ترق إلى حدود اللحظة إلي مستوى الحدث ولا هي اقتربت من أن تكون مؤثرة رغم الروابط الثقافية والدينية العابرة للتاريخ ولم تستطع أن تقدم أي شكل نضالي فعال ولم تبرهن عن أي استماتة وكأن الأمر لا يعنيها.
صحيح أن شخصية الشعوب تختلف عن شخصية الفرد المكون لها من حيث سرعة التفاعل والانخراط في الأحداث؛ فالأفراد عموما سريعي التأثر والتفاعل في حين تستكين الشعوب إلى الصمت مرحليا ريثما تتراكم الشروط اللازمة لتحركها، وصحيح أيضا أن شعوب المنطقة عانت لعقود من شتى صنوف التعتيم والتخويف والظلم لكن كل هذا لم يمنعها من استقبال حادثة إحراق البوعزيزي المواطن التونسي نفسه باستياء عارم سرعان ما أشعل ثورات انتقلت عدواها فورا إلى كل المنطقة تقريبا.
هذه الشعوب التي صنعت تلك الملاحم هي نفسها تقف عاجزة عن الفعل والتفاعل أمام حمام الدم في غزة. في اعتقادنا، ليس هناك ما يبرر هذا البرود في التعاطي مع ما يحدث، يمكنها أن تقول كلمتها سلميا وبشكل حضاري لا يبتغي عنفا ولا فتنة، بقدر ما يتبنى قضية إنسانية أصبحت كل قلوب العالم الحرة تتألم من أجلها بكرة وعشية. لا بد لنا من أن نتساءل شعوبا وأفرادا عن دورنا في ما يدور من حولنا وما يحاك لنا في السر والعلن.
غزة كشفت الكثير من الأوراق وجعلتنا على بينة من طبيعة النظام العالمي وأطماعه في المنطقة وإن لم تستطع أن تحركنا هذه البشاعة فكيف لنا أن نتحرك في أمور أقل منها شأنا. أملنا أن نستند إلى النظرية القائلة إن الشعوب تنتفض حيثما لا يتوقع أحد ونرجو ألا
يطول الأمد.
* أستاذ جامعي وكاتب مغربي