أحمد الجلالي
في مدخل المعبر على اليمين أسلاك، وإلى يساره أيضا أسلاح وحواجز.تعبر الحافلات من بوابة محروسة بالعساكر والأسلحة الرشاشة.يوقفون كل من يمر أولا، وبعد دقائق أو أكثر تمر وسائل نقل الناس أو السلع إلى المعبر، نقطة الإرتباط.
توقفت حافلتنا.نظرت من النافذة قبل النزول لأقرأ بالانجليزية والعربية عبارة تطلب من العابرين عدم تقديم أية “إكرامية” للموظفين.مثل هذه العبارة لم أقرأها من قبل في أية مؤسسة عربية. لا شك للأمر علاقة بحاجة في نفوس أبناء “يعقوب”.
مئات العابرين والعابرات، في شكل كتلة بشرية متلاصقة لا تتحرك من مكانها.صفوف كثيفة من الناس، ومعها أمتعتها، وأطفالها، ورضعها، ونساؤها، و شيوخها..ينتظرون.
أول ما وقعت عليه عيني كان شابا إسرائيليا في بداية العشرينات، بزي مدني، يتأبط سلاحا يشبه الكلاشينكوف. طول السلاح يكاد يضاهي قامة حامله.كان ينط من زاوية إلى أخرى، وكلما وقعت عيناه على “شيء” أو حركة مثيرة يركض بقوة.بدا مثل راع يراقب القطيع بنزق وشعور بأنه “نجم المكان والزمان”.سأعرف لاحقا أن الجيش الإسرائيلي يأتي بهؤلاء المتدربين الصغار ليتمرنوا كيفما شاؤوا في الفلسطينيين والعرب.يتركونهم هنا لفترة قصيرة، كي لا يربطوا أية صلة إنسانية مع العابرين.يتعلمون القسوة وفنون إذلال بني البشر، عفوا هم “وحدهم البشر وشعب الله المنتقى”، وما تبقى حشرات يمكنهم الفتك بها في هذه الصحراء، ولا من رأى ولا من درى بالقتل.مثال ذلك ما حصل لقاض أردني قبل شهور، ولأنه احتج فقط فقد قتلوه بالرصاص الحي أمام الناس.
هنا، وما أدراكم ما هنا، ليس وراء العابر إلا الوراء، وليس أمامه إلا المجهول.كل شيء يمكن أن يحصل، وفي أية لحظة يقع غير المتوقع.وكل ما قد يحصل متعلق بشيء وحيد: مزاج الموظف الصهيوني.
تجمع الزملاء، وكل منهم يجر حقيبته، في صفوف غير منتظمة، والحرارة تزداد ضغطا، والعرق يجري سيولا على الأجساد والوجوه الكئيبة، المترقبة للعبور فقط، ولا شيء غيره.
في الزاوية إلى اليمين وضعوا مكيفا يشبه الطاحونة شكلا، ويصدر الهواء البارد ممزوجا برذاذ. الفكرة بدت جيدة، لكن لا يمكنك أن تستفيد منه إلا إذا اقتربت كثيرا، وكيف لك الاقتراب وأنت ضمن المئات من الأفراد، والآلة محشورة في زاوية فقط؟
الناس يتراكضون هنا وهناك، وكثيرا ما يغيرون اتجاهاتهم وسط الصفوف المزدحمة، في حركة ضد اتجاه الطوابير.الفلسطينيون مهذبون بطبعهم، وحتى في ظل هذا الجحيم، يكون التسابق على الشبابيك ـ وهي بالأحرى ثقب في الحيان ـ يكون في التسابق قدر لا بأس به من الرأفة ببعضهم. لم اسمع كلمة ساقطة قالها أحد لأحد.
اقتربت كثيرا من المكيف العملاق وتركته يعبث ريحا ورذاذا في وجهي.كانت حقائبنا مكومة بلا انتظام.سلمنا الجوازات لبعد الله البقالي.رغم تعبه الظاهر وقامته غير الطويلة، صمد في الزحام الشديد ومرر الجوازات إلى موظفة كانت تصرخ في الناس بعربية متكسرة ، بلا سبب، وتطلب من الطوابير التراجع عن الشباك الوحيد، ثم يختفي صوتها وسط الزحمة.
بعد قرابة الساعة أعطاني زميلي البقالي جوازي، وتبعنا بعضنا في اتجاه ثقب آخر في حائط آخر.بعدها، لم أدر ما الذي يحصل: هناك من يقول سلموا الحقائب للتفتيش، وهنا من يستعجلنا للتقدم نحو شباكين آخرين.وفي قمة الزحام كان علينا جميعا أن نمسك جوازاتنا ورخص عبورنا جيدا بين أيدينا تفاديا لضياعها.
ظلت حقيبتي الخضراء، متوسطة الحجم معي.وجدت نفسي أمام شباك به موظف إسرائيلي قريب وجهه من السمرة.هو لا يشتغل في الأصل، بل “يشتغل في العابرين”: ينظر إلى الأسفل، وكأن ليس في هذا العالم سواه، وليس بالمكان غيره..وبعد سهو متعمد ينظر في الطابور ويقول: شواي..ورا ورا…ويستعين بحركات يده أن تراجعوا.
وفجأة يقول له عقله اشتغل فيبدأ في “العمل”: ينظر في الوجوه أولا وكأنها يقرأها بطرقته هو.يشير إلى من يريد ـ خارج منطق الأول بالأول ـ ويتناول جواز السفر ويقلبه مرات عديدة. ويسأل أو لا يسأل، وقد يسألك أي سؤال، وليس مضمونا أن يقتنع بأي جواب.وسأروي لكم بتفصيل مع وقع لي معه ومع غيره في هذا المعبر المشؤوم بكل معاني الشؤم ومقاييس الخسة واللؤم.
جاء الدور علي، وبما أني أتوفر على عين الصحافي اللاقطة لكل التفاصيل، وربما عين الكاتب أيضا، كنت خلف زميلين أقرأ وجه الموظف وأحاول أن أتوقع كل أسئلته: ماذا لو شتمني؟ كيف سأتصرف؟ ماذا لو لم يسمح لي بالمرور؟ طبعا سأطلب التبرير.ماذا لو هددني بالسلاح؟….
وأنا اسبح في هذه الاحتمالات، أشار إلي أن أقترب، لكني في لمح البصر رأيت فلسطينية مقعدة على كرسي متحرك في سن الجدات، فقلت له بالإنجليزية: السيد العجوز أولا.
نظر إلي نظرة اجتمع فيها الاستغراب بالكراهية.توقف قليلا ثم أخذ جواز السيدة، وفي بضع دقائق أعاده إليها. تقدمت فطلب من بإشارة فقط أن ألزم مكاني. لزمت مكاني. تحدث بالعبرية هاتفيا. وبعد ربع ساعة طلب من جوازي.تأمله كثيرا وقلبه مرات عديدة، ثم دار بيننا حوار سوريالي، بإنجليزية مكسورة من جانبه:
من أين أنت؟
من المملكة المغربية
المغرب؟
لا، المملكة المغربية
لماذا؟
لأنها في جواز إسمها المملكة المغربية.
صمت لدقائق….ثم عاد إلي بأسئلة أخرى
ما عملك؟
أنا كاتب صحافي
أين تشتغل؟
لدي موقع إخباري
وهنا أفتح قوسا: بما أنه لاحظ انجليزيتي مصقولة ولا أفكر في عباراتي ولا ألوكها في فمي قبل النطق، فقد أخذت صاحبنا الريبة، فاتصل مرة أخرى لا أدري بمن.
عاد إلي “الأسمراني” ليسألني مرة أخرى.
كم سنك؟
أنا من مواليد كذا وتاريخ ولادتي مكتوب على جوازي.
إذن سنك خمسون سنة.
لا سني أقل من ذلك بكثير.
لا سنك خمسون سنة.
قلت لك سني اقل من ذلك بكثير.
صمت طوييييييل مرة أخرى ثم قام من مكانه وجلب آلة حاسبة وصار يمثل كمن حل معادلة معقدة
بعد ذلك قال لي: نعم معك حق.
لعلها أول وآخر مرة يقول فيها صهيوني لعربي ” معك حق”..
قلت له في نفسي: غريب، إسرائيلي يتحدث عن “الحق”.ماذا عن حق الفلسطينيين؟ ماذا عن حق العودة…ماذا عن….وعن.؟؟؟؟؟؟
سلمني جوازي ولم ينظر لي ولا أنا نظرت إلى وجهه الغامض.
انعطفت يمينا، لأمر من تحت ستار بلاستيكي.وجدت أمامنا حواجز أخرى للتفتيش.يسحبون منك الجواز أولا وتمر ببوابة تفتيش، كما في المطارات.طبعا تنزع كل شيء مغناطيسي،عندما يأتي دورك.
كانت أمامي بوابتان، وكما عادتي قرأت الوجوه جيدا. لسبب غير منطقي، في مكان لا منطق فيه لأي شيء قررت أن أمر بالبوابة اليسرى.لما وصل دوري أغلقوها وصرت من “أصحاب اليمين”..الشكر لله.
عبرت البوابة وقبلها سلمتهم حقيبتي التي ظلت معي.داخل حقيبتي كان ينام حاسوبي الثقيل نسبيا.مررت من البوابة بلا مشاكل، وصففت على اليمين.وبقيت أنتظر منهم جوازي،وكانت فرصة لالتقاط مشاهد خزنتها في الذاكرة.هنا لا مجال للتصوير.
المجموعة داخل البناية، أقل خشونة مقارنة بمن هم في خارج البناية.أتأمل الوجوه وأسجل لكم هذه الصور:
ليسوا جميعا بيضا، بل يبدون من أعراق كثيرة فيهم الأسمر والأشقر والأبيض، ومن هو مزيج بين كل هذه الألوان.
وقعت عيني على موظفة شابة تميل قليلا إلى السمرة، تتحرك في كل مكان وكانت تبدو أنها تشتغل بجد، وإن سألتها عن شيء تجيب بإنجليزية أو عربية ضعيفتين.
موظف آخر أسمر، ذو وجه بملامح محايدة تماما، ولا ينظر بالتحديد إلى أي شيء، لكنه يفكر ثم يغيب ثم يعود فينادي على اسم عابر ما.
موظف آخر بقامة وملامح البولونيين، أشقر اللون، بجسم بدا لي من الصعب أن يصير رياضيا مهما بدل صاحبه من مجهود. كان يرتدي قميصا تائيا ـ تي شورت ـ ويفتش الحقائب ويراجع وثائق. كان على مرفقه العاري وشم للنجمة السداسية: كلما تحرك وولانا دبره بدت النجمة ساطعة، وعلى رأسه تلك الطاقية المعروفة. قلت لنفسي “هذا منتوج متكامل تتوفر فيه كل الشروط”.
تسلم زملائي، أو أغلبهم على الأرجح، جوازات سفرهم، وبقيت أنتظر حوالي أربعين دقيقة.
نادي علي الموظف الصامت الأسمر قليلا.وضع حقيبتي أمامي وقال لي لم لم تسلمها إلى مكان الأمتعة؟
قلت له: هناك زحام كثير كما تعرف والجو حار جدا، ولم أر أي مكان للأمتعة، ثم إن حقيبتي صغيرة كما ترى.
قال لي: لا بأس، هل يمكن فتحها؟
استغربت من هذا “الأدب”، وقلت له طبعا.
فتحت حقيبتي أمامه، وحتى الجيوب الصغيرة بالغت في فتحها، مكافأة له على تأدبه معي.
ختم التفتيش بعبارة عربية لا غبار عليها: ماشي الحال، ثم غاب عني.
وبعد نصف ساعة أخرى نادى علي ونطق اسمي الثلاثي بفصاحة كبيرة، ثم سلمني جوازي.
هل تظنون أن القصة انتهت إلى هذا الحد؟ لا تتفاءلوا كثيرا. مازال بالصراط غير المستقيم منعرجات ومنزلقات.
www.achawari.com
نواصل الخميس المقبل، مع الحلقة الخامسة