بعد تجربة السجن المريرة عاد توفيق بوعشرين إلى ساحة التداول الإعلامي من خلال بودكاست “كلام في السياسة”، ليس كمنتج فكرة وكلمة مصورة ومكتوبة فقط بل كذات إعلامية تتحول تدريجيا إلى موضوع يتناوله كل بطريقته وحسن قناعاتة و “حساسيته”، ويبدو أن بوعشرين مدرك تماما لهذا التطور المتسارع فنشر اليوم 20 أبريل 2025 مقالا/توضيحا/تدوينة على صفحته الرسمية بمنصة فيسبوك، لتوضيح الحدود بين السياسة و مجرد كلام في السياسة..نعيد نشرها في إطار “ما رأيكم”؟
بقلم: توفيق بوعشرين
أنا واحد ممن لا يملكون سوى الكلمة وسيلةً للتعبير، ووسيلةً للعمل، ووسيلةً للتنفيس عن الغضب أو الحزن أو الأمل…
منذ بدأت تجربة “كلام في السياسة” عبر وسيلة البودكاست، قبل ثلاثة أشهر، وأنا أسمع ثلاث خطابات، أو قل ثلاث تعليقات، على ما أكتب وما أقول… وخلاصتها كما يلي:
الطرف الأول: محب، معجب، مشجّع. لا حاجة لعرض رأيه هنا، فنحن من ثقافة لا تحتفي بالنجاح، ولا تحب الإطراء، وتنصح بـ”حثو التراب” في وجه من يمدحكم في حضرتكم، حتى لا يتسلل إليكم الغرور… ومع ذلك، لهؤلاء كل الشكر والعرفان، لأنهم احتضنوا هذه التجربة، المسموعة والمصورة والمكتوبة، بعد أن تعذّر الرجوع إلى “الحب الأول”: الجريدة!
الطرف الثاني: خائف على العبد لله من متاعب مهنة صارت خطيرة، مهنة لا تقبل أي شركة تأمين أن تبيع لأصحابها بوليصة حماية… ينصح هذا الفريق بخفض سقف الكلام، أو لما لا؟ بالصمت التام. حتى وإن كان هذا الصمت أخطر من الكلام في هذا التوقيت العصيب، الذي نعيشه الآن في مغرب يتنفس بصعوبة، ويعاني من فراغ قد تنبت فيه أزهار شر خطيرة…
الطرف الثالث: حاقد، مريض، زومبي. يخاطبك عبر وسطاء وأبواق وكائنات تشوه الإنسان داخلها حتى ما عادت تعرف طريقًا لعقل أو حكمة أو ذوق. هؤلاء يقولون: لا تكتب. لا تتكلم. لا تُعبّر. ولا تحلم حتى بفعل ذلك. لأنك “مطرود من رحمة حراس المعبد”، وعودتك إلى واجهة الإعلام تعني أن مخطط إعدامك الرمزي قد فشل، وهذه حقيقة لا يمكنهم احتمالها…
طيب، ماذا أفعل؟
الكلمات لا تذوب في فمي، وهذا مرض لا شفاء منه.
وعلى من يريد تجفيف ما تبقى من منابع حرية التعبير والاختلاف والحوار العمومي، على قلّته، أن يعتاد على صورنا، أو يصبر على شغبنا، أو يرفع كفّيه إلى السماء ليتعجّل برحيلنا عن هذه الحياة…
أو ببساطة: أن يُغيّر نظرته إلينا.
نحن لسنا سياسيين، ولسنا معارضين.
نحن نتكلم في السياسة، لكن لا نسعى، ولا نطمح، ولا نحلم بلعب دور سياسي، أو منافسة أحد على مقعده، أو إطاحة مسؤول من كرسيه…
كل ما يشغلنا هو أن نناقش قراراته، وننتقد تصرفاته ان اقتضى الحال، ونزعج تأويله الرسمي للأحداث والأخبار التي نراها لا تخدم الصالح الوطني.
وهذا “الصالح الوطني” كما يعلم الجميع، من المختلف حوله، لا من المجمع عليه… حتى وإن كان “الإجماع” في السياسة من أبغض الحلال لدى الشعوب الواعية.
في النهاية، يقول المغاربة:
“مول النية يغلب”.
والسياسة، لمن نسي، ليست واحدة من أسماء القضاء والقدر التي يجب على المواطن أن يؤمن بخيرها وشرها!
السياسة فعلُ بشر، واختيارُ بشر، وقراراتُ بشر.
والاعتراض عليها ليس ذنباً، ولا كبيرةً، ولا جريمة.
ومن يجعل الاعتراض السلمي المدني المتحضّر على القرار السياسي مستحيلاً، فهو يزرع بذور التمرّد، والثورة، والاضطراب… لأن من يُصادِر الكلام، يفتح أبواب جهنم على البلاد ويشجع من لا يؤمن بالكلام والرأي والاختلاف والتدافع السلمي لتجريب وصفته المدمرة للوصول إلى مبتغاه .
إنني دفعت، وما أزال أدفع كل يوم، ثمناً باهظاً عمّا أكتبه وأقوله من كلمات وأفكار وآراء،
بـ”حسٍّ طفولي” قريب من السذاجة، تماماً مثل ذلك الطفل الذي خرج من بين الجموع الخائفة من الإمبراطور، والتي لم تجرؤ على قول الحقيقة، فصرخ الطفل ببراءة أمام الموكب الرسمي:
“الإمبراطور عارٍ!”١
أكتب كما أفكّر، وأفكّر كما أعتقد، وأعتقد بما أراه من حقائق ماثلة أمامي، بالعين المجردة والدماغ المفتوح على :
حقائق الواقع، والعصر، وحتميّة التطوّر، وضرورة الخروج من عصور الظلام، والتخلّف، والجهل، والتحكّم في المصائر…إلى أفق ارحب .
هناك من يكتب ليعيش،
وهناك من يعيش ليكتب،
هناك من يكتب ليرضي سيّداً هنا، أو مُعلّماً هناك، أو مشغّلاً خلف الستار…
وهناك من يكتب ليرضي ضميره، ويعطي لحياته معنى. لا أكثر.
تستطيعون أن تعرفوا بسهولة إلى أي خانة أنتمي…
أنا المؤمن بالحرية.
هل البلاد تتّسع لكل الآراء، حتى الحدّية منها؟
أزعم أن الجواب: نعم.
هل الدولة في المغرب تملك من القوة والمشروعية ما يُمكّنها من الصبر على الاختلاف، وتحمل الرأي المخالف، وقبول التعدّد؟
جوابي: نعم.
نسبة الرضى العام على الدولة، ولا أقول الحكومة، نسبة مطمئنة… وهذا ما يسمح للدولة بأن تتصرّف بثقة في النفس، وكياسة، وأناقة سياسية.
هل قدر السلطة أن تعادي الصحافيين المستقلين والمعارضين، بكل أطيافهم؟
أزعم أن الجواب: لا.
هل هناك سوء فهم يتغذى عليه “شناقة” الإعلام، و”فراقشية” الصحافة، وتجار الأزمات؟
أزعم أن الأمر قد يكون صحيحاً إلى حد ما…
وشواهد ذلك كثيرة، منها الطريقة التي أفسد بها هؤلاء مكرُمة العفو الملكي على الصحافيين والمدوّنين في الصيف الماضي،
وتحوّل هذه المبادرة إلى مجرّد “هدنة قصيرة”،
بل وصل الأمر إلى حد منع البعض من السفر، واختراع قضايا جديدة لهم، ليُدخلوا في دورة سيزيفيّة لا تنتهي…
الحل؟
لم أجده بعد… أو قل: لستُ مُخوّلاً باقتراح حلّ.
الكرة في ملعب الآخر.
أصبح الصحافي، أو الكاتب، أو الحقوقي، أو السياسي، أمام تمرين شاق جدًّا يوميا :
ما هي الطريقة الملائمة لقول الحقيقة في مغرب اليوم؟
عوض أن “يعصر الإنسان” دماغه، وأفكاره، وذكاءه، وذاكرته، ليقدّم فكرة جديدة، أو تحليلاً مركباً، أو رأياً معتبراً، أو إبداعاً متحرّراً…
صار يمشي على البيض،
ويضرب ألف حساب لكل كلمة واحتمالات تأويلها،
ولكل جملة وممكنات تفسيرها،
ولكل استعارة وعشرات أوجه فهمها…
هذا ليس مناخاً يسمح بإنتاج أي شيء، لا ماديّ ولا رمزي.
سألني شابٌ اعترض طريقي الأسبوع الماضي، وقدّم نفسه على أنه عضو في حزب العدالة والتنمية، وقال:
هل للأستاذ عبد الإله بنكيران دور ما زال يمكن أن يلعبه في قيادة الحزب؟
فاجأني السؤال، حقيقةً…
لكنني أجبته مع ذلك وقلت:
اسأل أوّلاً: هل ما زال للأحزاب دورٌ تلعبه اليوم؟
اسأل: هل ما زالت للسياسة، بمفهومها العميق والنبيل، وظيفةٌ تؤدّيها؟
قد لا أملك سوى الكلمة،
لكن الكلمة حين تُقال بصدق ووعي ، قد تُربك سلطة الجهل، وتوقظ وعياً، وتُعيد ترتيب الأسئلة في عقول خدرها الخوف أو التعود أو التعب او الكسل .
لا أكتب كي أُعجب، ولا كي أُصفق، ولا كي أتقرب من احد .
أكتب فقط لأنني لا أستطيع الصمت،
ولأنني مؤمن أن بلداً بلا كلمة، هو بلد بلا مستقبل…
إذا كان لك رأي، فلا تهمسه بينك وبين نفسك.
قُلْه.
حتى لا يأتي يوم، يصبح فيه الصمت اكثر كلفة من الكلام .