لاسيكون رجعت يا مغاربة..أخنوش متى سيغني:طيري يا حمامة؟

 أحمد الجَــــلالي

يلتمس المؤمنون للغائب سبعين عذرا ويلخص المغاربة المسألة في بضع كلمات “الغايب حجتو معه”، وهذا يعني أننا شعب يرفض الأحكام المسبقة واليأس بل فنترك باب العودة والصلح والوصال مفتوحا وكذلك يصنع المستهلك المغربي حاليا مع مشروب  لاسيكون  الذي غاب 27 سنة ثم عاد..يا سلام.

ولم يهتم المغاربة ممن سيدفعون من جيوبهم لتاريخ المشروب منذ 1929 ولا الشركة التي أنتجته وتقلباتها، ولا لماذ قرر “بلارج” هجر عشه في السوق المغربية منذ سنة 1997، كل ما يهم المغاربة هو المذاق…واش مزال نفس المذاق؟

وهذا يعني من جهة أخرى أننا شعب يركز على النكهة و التلذذ بالدرجة الأولى إلى درجة أن المغربي إن استهجن موقفا أو أخلاق شخص يقول لك مباشرة “ما كاين بنة” وفي رواية أخرى “ماكاين بو مذاق”.

وبلا شك فإن أصحاب هذا المشروب الذي وصف في إعلانات التلفزة المغربية أيام زمان بكونه “عجيبة يا سلا” لن يغفلوا قطعا قضية “المذاق هذه..وإلا ستكون مغامرة العودة كارثة عليهم.

بدوري أتطلع إلى إغماض عيني معا وشرب “لاسيكون” دفعة واحدة وإطلاق سراح ذاكرتي نحو الماضي لكي أخكم واش مزال شي مذاق؟ ولا أخفيكم أن إغماض العين رياضة مريحة تدربت عليها منذ زمن لاسترجاع أدق تفاصيل التفاصيل.

ولست أدري علميا هل توجد صلة بين الدخول الطوعي إلى الظلام وجودة ودقة اشتغال الذاكرة، لكني جربت ورأيت الفرق بين الضوء والظلام في التعامل مع ما خزن في الدماغ.

وعودة “لاسيكون” اللقلاق أو بلارج..ما شاء الله على القاموس..هذه العودة تثير في الخاطر نوسطالجيا بين الفرح الطفولي والشجن على ماض تولى ولن يعود “دين الكلب” أبدا.

بالأمس فقط وأنا ابن تسع سنوات كان يأخذني معه طيب الذكر امحمد النهري، القريب هو وأسرته من عائلتي منذ الطفولة، يأخذني معه إلى “الحانوت” حيث مباريات لعبة الورق “الروندا” التي كان فيها امحمد بارعا وذا ثقة في النفس قبل التباري حتى إلى درجة كان أول ما يبدأ به: احمد افتح..سيم ولا أطلس ولا لاسيكون؟

وكأي انتهازي صغير كنت كل ليلة أختار واحدة مما سلف تنويعا للمذاق وإسرافا في التلذذ..وطبعا كله على حساب انتصارات النجم امحمد، ضامنا أنه سيربح..والحق يقال لم أره يوما قد خسر.

ورجوع اللقلاق الغازي إلى السوق يأخذني إلى حي “لاسيكون” بالقنيطرة، الذي صار جزءا من الوجدان الجمعي لجيل من الوافدين على مدينة حلالة. منا كطلبة من استأجر فيه بيتا أو منزلا جماعيا..ومنا من تزوج منه بعد أن عتر على عمل ومنا من اكتوى فقط بنار العشق من خلاله…وكلها دقتو يا لولاد كلها وكيتو.

ثم إن هذه العودة الميمونة للقلاقنا الجميل أعادتني إلى زمن صراعي مع مخلوقات الله الجميلة التي دخلت معها في تخد طفولي محموم تحت شعار “بيا ولا بيك”: مثلما كنت مصرا أن أحتل المركز الأول في نتائج الدراسة طبقت الأمر على الطيور التي كان عليها أن تدفع لي قرابين من بني فصيلتها ولا بد.

من تحدياني كانا الهدهد والقلاق: الهدهد طائر حذر طالما تحايلت عليه لكنه كان يفلت إلا في مرة واحدة أدركه الأجل على يدي: وراء أكمة صغيرة كمنت له وما أن رفع رأسه الصغير الجميل حتى كانت طلقتي قبلت رأسه حيث لامس الحجر الصغير ريشه الناعم. كانت نصف ضربة تحملها وطار. لكني وجدت بعد أيام طائرا يشبه الهدهد فأقنعت نفسي وعزيتها بأنه ضحيتي الذي نلت منه.

أما اللقلاق فنادرا ما كان يزور قريتي وإن فعل فهو يحوم عاليا جماعيا في فصل الربيع، ولكن كانت هناك مرة وحيدة “تشرفت” فيها بلقاء بلارج: كنت على عربة بجرها بغلتان وبيدي كما العادة في تلك المرحلة “جباد” عتيد جاهز.

هل مازالت عجيبة يا سلام؟

ولأن العربة كانت تسير على طريق معبدة على طول عشرات الحقول خرج أمامي على مسافة أبعد من مدى اصابعي الصغيرة لقلاق يتباهى بالطيران على مسافة منخفضة واتتني. سحبت الجباد إلى أقصى مدى وأرسلت الحجر بشكل دائري تجاه هذا الطائر الأسطوري. لم أصبه في البدن لكني أتذكرها دون إغماض جفني: أصبته في الجناج حتى تعتر طيرانه لكنه تحملها وأكمل طريقه وأنا أتحسر.

والحديث عن الحيوان ليس بريئا دائما إذا أني لا أخفيكم كوني أسرد من طفولتي وفي البال حيوان آخر اعتدى عليه غيري فجعل منه رمزا حزبيا دون استشارة هذا الطائر, أقصد حزب الحمامة الذي أصبح شعبيا حزب أخنوش الذي يوشك أن يصبح “فيسبوكيا” حزب أكوا وأكسال.

قبل تسع سنوات تنبأت للحمامة بكثير من الحبوب لكي تلتقطه بمنقارها هنيئا مريئا، ولدي شهود قراء من مشرع بلقصيري. ولكني تنبأت لها بهذا الرزق “من طيبة قلبي” ولم أكن أتوقع أن تلتهم الحماة “حب وتبن”.

توقعت لها بنية صادقة أن تنعم برفاهية سياسية وحكومية ولم أرعبها بقصصي مع الحمام الزاجل البري الذي كنت أسقط منه رفقة “خالي بنعيسى ولد السالمية” وببندقية صيده تحت شمس حارقة في تلك الثمانينيات البعيدة.

ولكن مقابل كل هذا الكرم مني قابلني وإياكم مول لحمامة بوعيد مرعب من إيطاليا حين أعلن عزمه أن يعيد تربيتنا..وكذلك صنع ولا فائدة في السرد وضرب الأمثلة بحيث يكفي أن تراجعوا أحوال جيوبكم منذ وصول حكومة الكفاءات إلى سدة المسؤولية التنفيذية.

ومن آخر قرارات حزب الحمامة ــ الذي لا أدري لم كف “الزملاء” عن نعته بالحزب الأغلبي كما كانوا يصنعون مع العدالة والتنمية ــ إقدامه على تعديل حكومي كبير دون إخبارنا كشعب بدواعيه وسبب توسيعه والغاية منه: فشل في تحقيق الطاقم الأول أهدافا محددة؟ أم زادت الأهداف وجيء لها بطاقم “كفاءات” أقدر؟

حتى أنا وقيلا كثرت من لاسيكون…متى كانوا يقيمون لنا وزنا ككتلة ناخبة ليخبرونا بما يفكرون أو يقررون؟

وكان من آخر خرجات مول الحمامة أن أجرى حوارا مصورا مع زميل مازال يصر على نقل “التلفزة” كما هي في الكتب المدرسية وبالكرفاتة على الطريقة التقليدية وبالفصحى كما لو كان يخاطب أهل يترب..في واقع رقمي صار فيه الشباب “يقنط” لمجرد أنك تكتب له “خمسة” بالحروف بدل الأرقام أو تكتب لغة عربية أو فرنسي أو حتى الدارجة عبر كلمات..هذه الملايين التي صنعت خطا هجينا لقيطا ولغة عبر شاشات الحواسيب والهواتف والدردشة.

لكن الزميل الذي خاطب أخنوش وغيره من الضيوف بالفصحى التي أحبها كشف المستوى الحقيقي لرئيس الحكومة ومستوى مداركه الاقتصادية والفكرية والسياسية.

وكلما تحدث أخنوش سألت نفسي عن الذنب الذي قد أكون اقترفته وعاقبني ربي بأن يكون هذا رئيسا لحكومة بلدي الذي ليس لي غيره موئلا، ولم كتب علي أن أعيش تحت إرادة حكومته خمس سنوات من عمري الذي ينقص ولا يزيد، وقبله مع عشرات ملايين المغاربة انقطع نفسنا قبل أن ينقشع كابوس العدالة والتنمية ومن معها ممن عبثوا بزمننا.

عود على بدء..ورجوعا إلى قاموس الحيوان والطيور:

ــ يا حمامة…أطيرا طيري ويا حمامة وجيبيلي من العدالة الاجتماعية “علامة”

ــ وأنت يا لقلاق..هاك هذه من قاع خابية الذاكرة: بلارج طار وجا عينو كحلة عوجة ومنقارو كيف السيف…

يا لطيف يا لطيف

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد