“ماتش” بين مغاربة ومقدسيين على أنف الاحتلال بمعبر “الكرامة”

 معبر الكرامة: أحمد الجلالي

مغادرة الضفة الغربية من فلسطين المحتلة كانت عندي أشبه بمغادرة مكان تشعر أنك منه وهو منك. لكن الخروج من سجن كبير وترك أحبه فيه وقد اطلعت عن قرب على معدنهم ومعاناتهم دون أن يكون في الوسع تقديم أي شيء ما عدا الألم والحسرة وإحساس بالغبن والقهر والعجز مجتمعين كان أشد إيلاما..كان ألما كريها يتجاوز الأحشاء عميقا نحو العظام.

ولكن مغادرة الضفة الغربية المحتلة ليس كدخولها أول مرة، الإجراءات عادية تقريبا والزمن سريع واسرع منه مرور شريط صور في الذاكرة التقطته عين صحافي خبر الناس والأمكنة.

صور التقطتها وحاولت بطريقة نفسية ما لا أستطيع تفسيرها أصلا أن أقفل عليها في مكان آمن بعقلي كي تظل هاجعة في الخاطر إلى الأبد. أحصيتها فكانت مائة ساعة بفلسطين، أو ما بين أريحا وبيت المقدس لأكون دقيقا جغرافيا، إذ فلسطين أكبر من مجرد الضفة والخليل وبيت لحم، فلسطين هناك أيضا في غزة وفي يافا وحيفا ونابلس والجليل وغيرها من المُغتصبات مدنا وحواضر وقرى كاملة يعود تأسيسها إلى قرون خلت.

توقفت السيارة عند مدخل معبر “ألنبي” البغيض، الذي يسميه الفلسطينيون “معبر الكرامة”، ويدعوه الأردنيون “جسر الملك حسين” ونزلنا تباعا نحمل أمتعتنا وما اقتنينا من تذكارات غالبة الرمزي. حرصت ألا يكسر كأس مطبوع قدمه لي هدية عزيز من أبناء مخيم الدهيشة ونايان اشتريتهما من الخليل، وكنت أشد حرصا بالخصوص على بضع قطع من حجر جلبتها معي من بيت المقدس، من أسوار المسجد الأقصى المبارك. لقد قمت بتهريب التراب الفلسطيني الغالي وقدمت قطعة منه لأمي قيد حياتها ،رحمها الله، لاستعمالها في التيمم.

وماهي إلا دقائق قليلة حتى كانت الإجراءات انتهت، وكانت على العكس تماما من إجراءات الدخول الطافحة بالغطرسة والاستفزاز والإهانة الرخيصة للعابرين نحو الضفة.

جلت ببصري في الأرجاء علي أجد مرة أخرى وجهين بشعين ممن وصفت في بداية الرحلة: واحد أسمر بلا شك من يهود الفلاشا، والثاني تميل ملامحه الموروثة إلى يهود أروبا الشرقية. لم أجدهما، وبدلا منهما رأيت وجوها أخرى من عمال وموظفين بدوا لي بوجوه كالحة ساخطة على نفسها، كادحون ولا تبدو عليهم عدوانية موظفي المعابر. كان من بينهم شخص بدين بقامة ضخمة يدفع عربات صغيرة وهو يتعرق.

ولأن زميلي لحسن سيموح قد يفاجئك في أي وقت بموقف غير متوقع، وفي وقت كان يقتضي الشعور بالأرق وبعض القرف فقد كان آخر شيء أنتظره منه أن يرفع مشروبه البارد عاليا ونحن نمر في الطابور ثم يغني.

فهمت متأخرا هذا الموقف النفسي من صديقي الأمازيغي فقد كان يريد إيصال رسالته بطريقته: لم نحزن في دخولنا فلسطين ولا حين خروجنا منها مهما صنعتم.

وبتلك الروح خرجنا معا نغني ومررنا من باب كبير فوجدنا في الخارج حافلة في انتظار المسافرين كانت بينهم أسرة مقدسية. تحدثت مع رب الأسرة وتبادلنا الهواتف، وفي انتظار التحاق بقية رفاق الرحلة انهمكت وسيموح في “ماتش” صغير لكرة القدم مع الأطفال المقدسيين جنب الحافلة.

كان الجو حارا ثقيلا استعنا عليه بالمشروبات الباردة واللهو مع صغار بيت المقدس. استجمعت ما ضيعته علي الصحافة من تقنيات مداعبة الكرة واستعرضت ما تبقى منها في المعبر، وكذلك فعل سيموح، فصنعنا مع الأطفال جوا معاكسا لطاقة التعسف والحقد التي تغمر المعبر الكريه.

استغرب موظفو المعبر العبريون من هؤلاء الأشخاص الاستثنائيين الذين خالفوا كل القواعد و “السحر” المبثوث في المكان وبدل أن يعبسوا ضحكوا وعوض أن يستكينوا لعبوا.

لم يعترض علينا أحد ولكنهم كانوا يرقبوننا بعين شبه حذره. كنت ألعب وأنا أتصبب عرقا ولسوء حظ الموظف البدين الغلبان أن كرة طائشة مني داعبت مؤخرته تماما فالتفت ببطء شديد كاشفا عن عينين حمراوين متعبتين. تنحنح ومضى.

 بعد قرابة الساعة كنا في الطريق إلى عمان وكانت وجهتنا فندق ” لاند مارك”.

وعند وصولنا إلى الفندق كان تعب أيام قد نال منا وكان كل واحد منا قد اشتهى بعض الراحة، لكن سيموح قرر أن وقت الراحة لم يحن بعد أيها الناس.

كانت حقيبة سيموح قد ضاعت منه في نقطة الجمارك، وهو الأمر الذي خلق توثرا لدى زميلنا قصدر إلينا قسطا وافرا منه. كان القرار سريعا عدنا بالسيارة وبعد مجهود وجدنا ضالتنا.

كان وقت الغروب قد أوشك، ولم يكن ممكنا، رغم العياء، أن نفوت فرصة زيارة البحر الميت لنحيي النفس قليلا  ببعض هواء خليج العقبة في أخفض نقطة على وجه كوكب الأرض.

نزلنا، ولشدة عيائي قرأت لافتة “فندق موفمبيك” على أنها “فندق موزمبيق” فتساءلت ما علاقة الموزمبيق بهذا المكان السياحي الجميل في الأردن؟

قضينا حوالي نصف ساعة في ذلك المكان. نزل أصدقائي إلى الماء ومنهم من أخذ بعض الطين الذي يقال إنه جيد لبشرة الوجه تحديدا.

لم أنزل إلى الماء وفضلت استكشاف المكان والتقاط بعض الصور ومعها ــ قلت لنفسي لا بأس ــ من التلذذ بتبغ دولي معفى من الضرائب ” Duty free”.

عدنا إلى الفندق ونلنا قسطا من الراحة، وكان العشاء ببيت السفير المغربي في الأردن، زميلنا لحسن عبد الخالق. وأخيرا، ها نحن في بيتنا. كان عشاء فاخرا لذيذا بنكهة مغربية خالصة. وكان أجمل من الأكل طيبوبة أخينا السفير وتواضعه وحرصه على راحتنا. هكذا هو الإنسان المغربي قد يغضب أحيانا السياسيين ويسخط على الأرض والهواء ولكن ما أن يعبر الحدود حتى ولو ذهب معززا مكرما يصبح باحثا عن مجرد نسمة هواء أو حديث يذكره بالوطن.

كانت سهرة عائلية وحديث عقلاء مع السفير والزملاء تخللتها أحاديث متفرقة عن الرحلة إلى فلسطين ومتاعب العبور، وتعليقات على أحداث و موقف كثيرة.

جاء وقت الانصراف مجددا إلى الفندق. أخذني السائق، وهو شخص من الحبشة في غاية الطيبوبة.

طلبت منه في الطريق ألا يسرع كي لا أعبر وسط عمان دون أن أملي عيني بمناظرها. استجاب لي بكل ترحاب وشرع يذكر لي أسماء الشوارع، وحين مررنا قبالة القصر الملكي مازحت السائق بطريقة مغربية أصيلة: في الحقيقة لا داعي أن أزعج الملك في هذه الساعة المتأخرة من الليل..عيب، يستحسن أن تأخذني إليه غدا بعد العاشرة صباحا”. ابتسم ثم لم يقاوم ضحكة خفيفة.

وصلت إلى “اللاند مارك”. نمت طويلا. ولما استيقظت صباحا، جمعت أغراضي واتجهت رأسا إلى مطار الملكة علياء، ومنه كان علي التوجه إلى مطار هواري بومدين بالجزائر ومن هناك إلى الدار البيضاء. وتلك رحلة طويلة وطريفة تستحق أن تدون.

www.achawari.com

 

 

 

 

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد