أحمد الجلالي
تركنا وراء ظهورنا الحرم الإبراهيمي بعواطف كلها نقمة وحسرة. نقمة على الاحتلال وما يصنع في الناس ومقدساتهم، وحسرة لأننا لا نملك سوى الشجب والتنديد، في “اعتداء شنيع” منا على تخصص صار ملكية فكرية لجامعة الدول العربية.
كان الوقت ما بين العصر والمغرب، ولم أكن أعرف على وجه التحديد بقية برنامج ذلك اليوم هل سنعود إلى رام الله أم هناك شيء آخر في طريقنا.استقلت مكاني بالسيارة ولم أخمن، بل تركت لبصري أن يلتقط ما يستطيع من صور على الطريق.
بعد وقت يسر، لعلها ربع ساعة، كنا في بوابة كنيسة المهد.مهد المسيح عليه السلام، ابن مريم العذراء.
هنا ولد نبي الله عيسى بن مريم، وهنا كانت قصته كما روتها الكتب المقدسة، هنا قيل لمريم البتول “كيف نكلم من كان في المهد صبيا”؟ وهنا رد عليه السلام ” سلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا”.
سلام عليك يا نبي الله، سلام على آل عمران، سلام على سلالة الأنبياء الأطهار الكرام..
للمكان هيبته وقدسيته، ولزائريه سحنات الخشوع والخضوع والاحترام الممزوج بتواضع النسك العابدين.
لست مسيحيا، لكني لن أكون مسلما ولا من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام إن لم أومن بعيسى ابن مريم.آمنت بك عيسى نبيا ابن مريم، ولدت معجزة، أنت من روح الله.أنت كما حدثنا عنك القرآن، ولا نزيد.
إلى داخل الكنيسة، كنت آخر من يدلف إليها،بعد أن مسحت خارجها ببصري والتقطت بعض الصور.
الممر إلى وسط كنيسة المهد كان خشبيا، وبدا أن المشرفين عليها كانوا يقومون ببعض الإصلاحات، ولذا كنا نمر بتمهل ولطف.
ها نحن في قلب كنيسة المهد، كل شيء قديم قدم قصص الأنبياء، برائحة قدسية فيها عبق السماء وريحان الغيب على هذا الأثر الذي صار ملكا للإنسانية كلها.سواء من صدق أو شكك، من آمن أو كفر.
من الأماكن وال المشاهد التي لا تنسى، لن يسقط من ذاكرتي ما يلي:
مكان مغطى هو عبارة عن زاوية بأرضية من رخام عتيق، مكسوة ومزينة بالنحاس، تتوسطها ثقب أرضي، على حواشيه نجمة نحاسية بأضلاع كثيرة، وفي سطح المكان الخفيض علقت مصابيحه بأضواء خافتة. قيل لي هذا مهد المسيح عليه السلام.
سلام عليك نبي الله، سلام على مريم.قرأت صورة الإخلاص في نفسي ودخلت ذلك المكان فشممت رائحة تسربت إلى أعماقي، لا أملك كلمات تفي بوصفهاـ دخلت ثواني معدودات وكلي حذر أن أوذي هذا المكان، لأنه ملك الناس جميعا.شعرت بخجل كبير أني لم أزل حذائي، رغم أن آخرين دخلوه منتعلين أحذيتهم.
كان علي أن أخلع نعلي فالمكان مقدس، وأنا ابن البادية، من بلاد مسلمة، وديدني إلى اليوم أن أدخل حافيا إلى كل مسجد وكل زاوية وكل مقبرة وكل ضريح..ومن شب على أمر شاب عليه.
تجولنا في الكنيسة حوالي ساعة،كنت ألمس كل حائط مررت به، وأركز جيدا في كل حجر وكأني أريد تثبيت هذه المشاهد في الذاكرة من أجل اختبار مصيري.لعله الإحساس وربما اليقين أن معاودة زيارة هذه الربوع أمر قد لا تسمح به الظروف والأعمار.
زحف ظلام المغرب على سماء فلسطين نهاية ذلك اليوم ونحن بكنيسة المهد، لم نشبع من التجول في فضائها الروحاني الأخاذ، لكن كان لابد من الرحيل عنها، رغم أن القيمين عليها زادونا مشكورين حوالي نصف ساعة على الوقت القانوني لإغلاق أبوابها.
وأنا أهم بالمغادرة، في آخر الوفد، مثل طفل يغادر مرتعا ما مكرها، صادفت أحد القيمين على الكنيسة. شاب مسيحي بلباس من نذر نفسه للعبادة.صافحته وأخذت رفقته صورة تذكارية، ثم عانقته شاكرا لهم حسن استقبالنا، ومضيت في إثر زملائي.
إلى أين؟ هذا ما سأكشفه لكم في الحلقة القادمة الخميس المقبل.
www.achawari.com